متن عربی درس صدرالمتالهین3(براساس مصوبه شورای برنامه ریزی وزارت علوم،تحقیقات وفناوری)

 متن سرفصل درس صدرالمتالهین3 - ازکتاب الحكمة المتعالية فى الاسفار العقلية الاربعة چاپ بیروت

جلد8 ص11 تا ص14

حكمة مشرقية:

و هاهنا سر شريف‏«1»يعلم به جواز اشتداد الجوهر في جوهريته و استكمال الحقيقة الإنسانية في هويته و ذاته و يعلم أن هذا الحد للنفس ليس بحسب الاسم‏«2»فقط كما في حد البناء و الأب و الابن و ما يجري مجراها و ذلك لأن نفسية النفس ليست كأبوة الأب و بنوة الابن و كاتبية الكاتب و نحوها مما يجوز فيه فرض خلوة عن تلك الإضافة فإن لماهية البناء وجودا و لكونه بناء وجودا آخر و ليس هو من حيث كونه إنسانا هو بعينه من حيث كونه بناء فالأول جوهر و الثاني عرض نسبي و هذا بخلاف النفس فإن نفسية النفس‏نحو وجودها الخاص و ليس لماهية النفس وجود آخر هي بحسبه لا تكون نفسا«1»إلا بعد استكمالات و تحولات ذاتية تقع لها في ذاتها و جوهرها فتصير حينئذ عقلا فعالا بعد ما كانت بالقوة عقلا.

و البرهان على أن نفسية النفس في ابتداء نشأتها ليست من العوارض اللاحقة بذاتها لازمة كانت أو مفارقة كالحركة اللاحقة بالفلك أو كالأبوة اللاحقة بذات الأب أنه لو كانت كما زعمه الجمهور من الحكماء«2»لزم كون النفس جوهرا متحصلا بالفعل من جملة الجواهر العقلية المفارقة الذوات ثم سنح لها أمر«3»ألجأها إلى التعلق بالبدن و مفارقة عالم القدس و مزاولة العنصريات لكن التالي مستحيل لأن ما بالذات لا يزول و الجوهر المفارق لا يسنح له شي‏ء لم يكن له في ذاته إذ محل الحوادث المادة الجسمانية و ما يقترنها.

و أيضا النفس تمام البدن و يحصل منها و من المادة البدنية نوع كامل جسماني- و لا يمكن أن يحصل من مجرد و مادي نوع طبيعي مادي بالضرورة فإذا بطل التالي فكذا المقدم فعلم أن اقتران النفس بالبدن و تصرفها فيه أمر ذاتي لها بحسب وجودها الشخصي فهذه الإضافة النفسية لها إلى البدن مقومة لها لكن لا يلزم من ذلك‏«4»كونهامن باب المضاف و لا يخرج به النفس عن حد الجوهرية بل عن حد العقلية فقط فهذه الإضافة كإضافة القابلية للهيولى و إضافة الصورية للصور الطبيعية و إضافة المبدعية و العالمية و القادرية للواجب تعالى و إضافة العرضية للسواد و البياض و غيرهما من مقولات العرض فإن أنحاء وجوداتها لا تنفك عن إضافة إلى شي‏ء و لها معان أخر غير الإضافة لست أقول لها وجود غير وجود الإضافة فالسواد مثلا له ماهية مستقلة في معناها و حدها و هي من مقولة الكيف و لكن وجودها في ذاتها هو وجودها في الموضوع أعني عرضيتها فالعروض للموضوع ذاتي لهوية السواد لا لماهيته و هكذا القياس في المادة و الصورة و الطبيعة و النفس من حيث إنه لكل منها ماهية أخرى جوهرية غير الإضافة كما أن للأعراض ماهية أخرى عرضية غير العروض و لكن هوياتها الشخصية هويات إضافية و بهذا يعلم‏«1»أن الوجود أمر زائد على الماهية فوجود النفس لكونها صورة للمادة يلزمها إضافة البدن كما يلزم لكل صورة إضافة المادة لكن ليس يلزم من ذلك كونها من باب المضاف و لا كونها من الأعراض لأن هذه الإضافة إضافة التقويم و التكميل لا إضافة الحاجة المطلقة«2»كما في العرض فالنفس ما دامت لم تخرج من قوة الوجود الجسماني إلى فعلية العقل المفارق- فهي صورة مادية على تفاوت درجاتها قربا و بعدا من نشأتها العقلية بحسب تفاوت‏وجوداتها شدة و ضعفا و كمالا و نقصا إذ الوجود مما يقبل الاشتداد و مقابله كما بيناه في العلم الكلي في مباحث القوة و الفعل‏.

و لنرجع إلى ما فارقناه من تحديد النفس‏فنقول فهي إذن كمال للجسم‏«1»لكن الكمال منه أولى و هو الذي يصير به النوع نوعا بالفعل مثل الشكل للسيف و الكرسي- و منه ما هو ثان و هو الذي يتبع نوعية الشي‏ء من أفاعيله و انفعالاته كالقطع للسيف و التمييز- و الروية و الإحساس و الحركة الإرادية للإنسان فإن هذه كمالات ثانوية ليس يحتاج النوع في أن يكون نوعا بالفعل إلى حصول هذه الأمور بل إذا حصل له مبدأ«2»هذه الأشياء بالفعل حتى صار له هذه الأشياء بالقوة القريبة بعد ما لم يكن إلا بقوة بعيدة- فالحيوان حيوان بالفعل و إن لم يتحرك بالإرادة بالفعل و لم يقع له الإحساس بالفعل لشي‏ء و المهندس مهندس بالفعل‏«3»و إن لم يعمل عمل المساحة و غيرها و الطبيب طبيب بالفعل و إن لم يعالج أحدا فالنفس كمال أول و كون الشي‏ء«4»كمالاأولا لشي‏ء لا ينافي ذلك كونه كمالا ثانيا لشي‏ء آخر.

جلد8 ص221تا ص230

فصل (4) في بيان أن النفس كل القوى‏

بمعنى أن المدرك بجميع الإدراكات المنسوبة إلى القوى الإنسانية هي النفس الناطقة و هي أيضا المحركة«1»لجميع التحريكات الصادرة عن القوى المحركة الحيوانية و النباتية و الطبيعية و هذا مطلب شريف و عليه براهين كثيرة بعضها من جهة الإدراك و بعضها من جهة التحريك‏و التي من جهة الإدراك نذكر منها ثلاثة:

البرهان الأول‏: من ناحية المعلوم أنه يمكننا أن نحكم على شي‏ء بأحكام المحسوسات- و الموهومات و المعقولات فنقول مثلا إن الذي له لون كذا له طعم كذا و ما له صوت كذا له رائحة كذا و الحاكم بين الشيئين لا بد و أن يحضرهما و المصدق لا بد له من تصور الطرفين فلا بد لنا من قوة واحدة ندرك لكل المحسوسات الظاهرة حتى يمكننا الحكم بأن هذا اللون هو هذا المطعوم و أن الذي له الصوت الفلاني له الرائحة الفلانية و كذا إذا تخيلنا صورة ثم أدركناه بالبصر نحكم بأن تلك الصورة هي صورة زيد المحسوس مثلا فلا بد من قوة واحدة مدركة للصورة الخيالية و الصورة المحسوسة حتى يمكننا الحكم بأن هذه الصورة الخيالية مطابقة لهذا المحسوس فإن القاضي بين الشيئين- لا بد و أن يحضره المقضي عليهما و كذا إذا أدركنا عداوة زيد و صداقة عمرو فقد اجتمع‏ عندنا صورة المحسوس و صورة الموهوم ثم لنا أن نتصرف في الصور الخيالية و المعاني الجزئية المدركة بالتركيب و التفصيل و الجمع و التفريق و نحكم بإضافة بعضها إلى بعض إيجابا أو سلبا و الحكم لا يتم إلا بحضور المحكوم عليه و المحكوم به جميعا- فإذن المتولي لهذا التركيب بين المعاني و الصور أو التفصيل قوة واحدة مدركة للمعاني و الصور.

 ثم نقول:إذا أحسنا بزيد أو بعمرو و حكمنا بأنه إنسان أو حيوان و ليس بحجر و لا شجر فحكمنا على المحسوس الجزئي بالمعقول الكلي و إذا أدركنا فرسا شخصيا حكمنا بأنه حيوان و ليس إنسان فحكمنا بأن هذا المحسوس هو جزئي ذلك المعنى المعقول و ليس جزئي ذلك المعقول الآخر فإذن فينا قوة واحدة مدركة للكليات المعقولة و للجزئيات المحسوسة فثبت أن النفس قوة واحدة مدركة لجميع أصناف الإدراكات.

ثم نقول‏«1»الحركات الإنسانية اختيارية فيكون محركها مختارا و كل مختار فمبدأ حركته شعوره بغاية الحركة سواء كانت حركة عقلية أو حسية شهوية أو غضبية- و الإنسان يتحرك أقسام الحركات الاختيارية بعضها للحكم بالعقل و بعضها بالوهم- و بعضها لجلب الملائم الحسي و بعضها لدفع المنافر الحسي فإذن في الإنسان شي‏ء واحد هو المدرك بكل إدراك و هو المحرك بكل حركة نفسانية و هذا هو المطلوب- فإن قلت إدراكاته و تحريكاته بوساطة القوة فبالحقيقة مبادي الإدراكات و التحريكات هي القوى و هي أمور متعددة.قلنا هو المدرك بالحقيقة و القوى بمنزلة الآلات و قد مر أن نسبة الفعل إلى الآلة مجاز و إلى ذي الآلة حقيقة.

فإن قلت إذا كانت النفس مدركة للمحسوسات بالحقيقة فتكون قوة حساسة- و إذا كانت مدركة بالحقيقة للصور الخيالية كانت قوة خيالية و إذا كانت مدركة للموهومات كانت واهمة فتكون ذات واحدة عقلا و وهما و خيالا و حسا و طبعا و محركا و يكون جوهرا واحدا مجردا و ماديا.

قلنا النفس بالحقيقة موصوفة بهذه الأمور و مباديها إذ لها درجات وجودية على ترتيب الأشرف فالأشرف و كانت لها حركة في الاستكمال الجوهري و كلما وصلت إلى مرتبة كمالية جوهرية كانت حيطتها أكثر و شمولها على المرتبة السابقة أتم فإذن النوع الأخصر الأتم يوجد له النوع الأنقص فكما أن نوع الحيوان و طبيعته تمام لنوعية النبات و طبيعته و النبات تمام الطبيعة المركب المعدني و طبيعة المعدن تمام لطبيعة الجسم فكذا طبيعة الإنسان أعني ذاته و نفسه تمام لجميع ما سبق من الأنواع الحيوانية و النباتية و العنصرية و تمام الشي‏ء هو ذلك الشي‏ء مع ما يزيد عليه فالإنسان بالحقيقة كل هذه الأشياء النوعية و صورته صورة الكل منها.

فإن قلت فعلى ما ذكرت لا حاجة إلى إثبات هذه القوى بل ينسد طريق إثباتها.

قلنا هذا بعينه كمسألة التوحيد في الأفعال فإن قول الحكماء بترتيب الوجود و الصدور لا تدفع قول المحققين منهم أن المؤثر في الجميع هو الله تعالى بالحقيقة فهكذا هاهنا«1»فإن النفس لكونها مع وحدتها ذات شئون كثيرة متفاوتة لا بد للحكيم من تعرف شئونها و حفظ مراتبها لئلا يلزم إسناد فعل إلى غير فاعلها من طريق الجهالة- فإن من نسب حس الإنسان أو شهوته إلى جوهر عقله من غير توسط أمر آخر فقد جهل بالعقل و ظلم في حقه إذ العقل أجل من أن يكون شهوة و كذا من نسب دفع الفضلات بالبول و البراز إلى القوة العاقلة فقد عظم الإساءة له في باب التحريك فإن تحريكاته ليست على سبيل المباشرة بل على سبيل التشوق إليه شوقا و عشقا عقليا حكميا و كذلك الأمر فيما زعمه الجمهور من أهل الكلام من نسبة الشرور و الأفاعيل الخسيسة إلى الباري‏جل ذكره من غير توسيط الجهات و القوى العالية و السافلة و هذا من سوء الأدب منهم في حق الباري من حيث لا يشعرون و معرفة النفس ذاتا و فعلا مرقاة لمعرفة الرب ذاتا و فعلا فمن عرف النفس أنها الجوهر العاقل المتوهم المتخيل الحساس المتحرك- الشام الذائق اللامس النامي أمكنه أن يرتقي إلى معرفة أن لا مؤثر في الوجود إلا الله.

البرهان الثاني‏:من ناحية العالم أنك لا تشك في أنك تبصر الأشياء و تسمع الأصوات و تدرك المعقولات و لا تشك أنك واحد بالعدد فإن كان المدرك للمعقولات غير المدرك للمحسوسات فجوهر ذاتك الذي هو أنت عند التحقيق لم تدركهما جميعا إذ لو أدركهما لكان المدرك لهما ذاتا واحدة و هو المطلوب و إلا فكنت أنت ذاتين اثنتين لا ذاتا واحدة- و كذا الكلام في الشهوة و الغضب فإنك لا تشك أنك المشتهي للنكاح أو شي‏ء آخر و أنك المغضب لعدوك.فإن قلت القوة الباصرة التي في العين آلة في العين تدرك المبصر ثم يؤدي ما أدركته إلى العلاقة التي بيني و بينها فيحصل لي الشعور بالشي‏ء الذي أدركته القوة الباصرة.قلنا نعد التأدية إليك هل تدرك أنت الشي‏ء المبصر كما أدركته الآلة أم لا فإن قلت نعم فإدراكك غير و إدراكك الآلة غير فهب أن إدراكك يتوقف على إدراك آلتك- إلا أنك إنما تكون مدركا لأجل أنه حصل لك الإدراك لا لأجل أنه حصل لآلتك الإدراك.فإن قلت أنا لا أدرك بعد التأدية فإذن ما أبصرت و ما سمعت و ما وجدت من نفسك ألمك- و لذتك و جوعك و عطشك بل علمت أن العين التي هي آلتك أو القوة الباصرة قد أدركت و أبصرت شيئا و هذا العلم غير و حقيقة الرؤية و الإبصار غير فالعلم بأن العين يبصر- و السمع يسمع و الرجل يمشي و اليد يبطش ليس إبصارا و لا سماعا و لا مشيا و لا بطشا- كما أن العلم بأن غيرنا جائع أو متألم أو ملتذ ليس وجدانا للجوع و الألم و اللذة- لكن العقلاء ببداهة عقولهم يعلمون أنهم يسمعون و يبصرون و يتألمون و يلتذون و يبطشون و يمشون فإن جاز إنكار هذا العلم جاز إنكار جميع المحسوسات و المشاهدات فعلم أن النفس بها قوة سمعنا و بصرنا و بطشنا و مشينا فبها نسمع و بها نبصر و بها نبطش‏و بها نمشي فثبت بهذا أن جوهر نفسك الذي أنت به أنت سامع و مبصر و متألم و ملتذ و عاقل و فاهم و باطش و ماش و إن احتاج في كل نوع من هذه الأفعال إلى آلة مخصوصة طبيعية و ذلك مما لا نزاع فيه ما دمنا في عالم الطبيعة و إن انسلخت النفس عن البدن و استقلت في الوجود صدرت هذه الأفاعيل عنها بدون الآلة كما شاهده أصحاب النفوس الكاملة و دل عليه النوم فإنا نفعل هذه الأفاعيل حالة المنام من غير استعانة بهذه الآلات.

البرهان الثالث‏:من طرف العلم على أن النفس مدركة للجزئيات لا شك في أن النفس ذات شخصية و هي متعلقة بالبدن تعلق التدبير و التصرف كما ستعلم و معلوم أن النفس المعينة ليست مدبرة للبدن الكلي و إلا لكانت عقلا مفارقا بالكلية و لم يكن تعلقها بالبدن المعين إلا كتعلقها بسائر الأبدان و التالي باطل فالمقدم كذلك فهي إذن مدبرة لبدن جزئي و تدبير الشخص من حيث هو الشخص يستحيل إلا بعد العلم به من حيث هويته الشخصية و ذلك لا يكون إلا بحضور صورته الشخصية عند النفس- و ذلك يستلزم‏«1»كون النفس مدركة للجزئيات و هي مدركة للكليات ففي الإنسان هوية واحدة ذات أطوار متعددة.

فإن قلت إن نفسي مدبر بدنا كليا ثم إنه يتخصص ذلك التدبير لتخصص القابل.

قلت هذا باطل أما أولا فكل عاقل يجد من نفسه أنه لا يحاول تدبير بدن كلي بل مقصوده تدبير بدنه الخاص.

و أما ثانيا فتخصص هذا التدبير بسبب القابل إنما يكون معقولا إذا كان بدن الشخص قابلا لتدبير معين لا تقبله سائر الأبدان و ليس الأمر كذلك فإن كل‏تدبير يقبله سائر الأبدان فيستحيل أن يكون تخصص التدبير لتخصص القابل.

و أما ثالثا فتخصص البدن و تعينه إنما يكون بسبب تصرف النفس و تدبيرها لأنها الجامعة لأجزائه و الحافظة لمزاجه فلو كان تخصص التدبير بسبب تخصص البدن لزم الدور فهذه هي الوجوه الكلية في بيان أن النفس كل القوى و ليس في ذلك إبطال القوى كما سبق‏و هاهنا وجوه أخرى خاصةأحدها«1»إنا ندعي أن محل‏«2»الشهوة و الغضب ليس هو البدن‏و لا جسم من الأجسام لأن كل جسم منقسم كما ثبت فلو كان محل الشهوة و النفرة هو الجسم لم يمتنع أن يقوم بأحد طرفيه شهوة و بطرفه الآخر نفرة حتى يكون الشخص الواحد في الحالة الواحدة لشي‏ء واحد مشتهيا و نافرا.

و ثانيها:أن القوة الوهمية قوة غير ماديةو إلا لانقسمت العداوة و الصداقة لانقسام محلها و كانت من ذوات الأوضاع فحينئذ يكون للصداقة ربع و ثلث و تكون قابلة للإشارة الحسية بأن هذه العداوة هناك في الفوق أو في التحت أو في السوق أو في البيت و ليس كذلك.

و ثالثها أن الخيال و الحفظ قوة غير جسمانية:و عليه براهين قوية سبق ذكر بعضها في مباحث العقل و المعقولات و الذي نذكر منها هاهنا أنا قد برهنا هناك على أن الصور التي يشاهدها النائمون و الممرورون أو يتخيلها المتخيلون أمور وجودية يمتنع أن يكون محلها جزء البدن لما بيناه أن البدن ذا وضع و تلك الصور ليست من ذوات الأوضاع‏ و لما ثبت أيضا في بداهة العقول من امتناع انطباع العظيم في الصغير فإذا هي موجودة للنفس قائمة بها ضربا آخر من القيام.

طريق آخر:أن الصور«1»الخيالية لو كانت منطبعة في الروح الدماغي كما هو المشهور من القوم لكان لا يخلو إما أن يكون لكل صورة موضع معين غير موضع الصورة الأخرى و ذلك محال إذ الإنسان الواحد قد يحفظ المجلدات و يشاهد أكثر الأقاليم و البلدان و عجائبها و يبقى صور تلك الأشياء في حفظه و خياله و من المعلوم بالبداهة أن الروح الدماغي لا يفي بذلك و إما أن ينطبع جميع تلك الصور في محل واحد- فيكون الخيال كاللوح الذي يكتب فيه الخطوط بعضها على البعض و لا يتميز شي‏ء منها- و لكن الخيال ليس كذلك إذ يشاهدها متميزا بعضها عن بعض غير مغشوش فعلمنا أن الصور غير منطبعة على أن من الممتنع أن يتلاقى الأشياء المتحدة في الطبيعة و لا تصير متحدة الوجود و إذا اتحدت فمن الممتنع أن يختص البعض بأن يكون محلا لصورة دون البعض.

وجه آخر أن الروح الخيالي لكونه جسما لا بد أن يكون له مقدار فإذا تخيلنا المقدار فعند ذلك لو حصل فيه المقدار لزم‏«2»حلول المقدارين في مادة واحدة و هو محال.

الوجه الرابع التمسك بما ذكره الشيخ في كتاب المباحثات على طريق التشكيك‏لمنافاته مع كثير من أصوله مثل أن الإدراك للشي‏ء المغاير لا بد فيه من انطباع صورته في المدرك فلو كانت النفس مدركة للصور المقدارية فيلزم كونها«3»محلا للمقدار- و إن الجوهر«4»الواحد لا يمكن أن يكون مجردا و ماديا عاقلا و حساسا و غيرهمامن القواعد و نحن نعتقده برهانا لكونه مطابقا لما اعتقدناها من أصول محققة عندنا يخالف تلك الأصول مثل كون الوجود متحققا في الأعيان دون الماهية و كونه قابلا للشدة و الضعف و مثل تجوز الحركة في الجوهر و تجدد الطبيعة و كاتحاد العاقل بالمعقول و صيرورة النفس متحدة بالعقل بعد كونها متحدة بالحس إلى غير ذلك من أمور كثيرة وقع الخلاف منا معه فيها و الحق أحق بالاتباع و هذه عبارته في المباحثات بعينها قال إن المدركات من الصور و المتخيلات لو كان المدرك لها جسما أو جسمانيا فإما أن يكون من شأن ذلك الجسم أن يتفرق بدخول الغذاء عليه أو ليس من شأنه ذلك و الثاني باطل لأن أجسامنا«1»في معرض الانحلال و التزايد بالغذاء.

فإن قيل الطبيعة تستحفظ وضع أجسام ما هي الأصول و يكون ما ينضم إليها- كالدواخل عليها المتصلة بها اتصالا مستمرا و يكون فائدتها كالمعدة للتحلل إذا هجمت المحللات فيبقى الأصل و يكون للأصل بها تزيد غير جوهري.

فنقول هذا باطل لأنه إما أن يتحد الزائد بالأصل المحفوظ أو لا يتحد به فإن يتحد به فلا يخلو«2»إما أن يحصل في كل واحدة من القطعتين صورة خيالية على حدة أو ينبسط عليهما صورة واحدة و الأول يوجب أن يكون المتخيل من كل شي‏ء واحد اثنين واحد يستند به الأصل و واحد يستند به المضاف إلى الأصل.

و أما الثاني:فإذا غاب الزائد بقي الباقي ناقصا فيجب عند التحلل أن لا يبقى المتخيلات تامة بل ناقصة على أن ذلك من الممتنع و إما أن اتحد الزائد بالأصل‏فيكون حكم جميع الأجزاء المفترضة فيه بعد ذلك الاتحاد في التحلل و التبدل واحدا- فحينئذ يكون الأصل في معرض التحلل كما أن الزائد في معرض التحلل فظهر مما قلناه أن محل المتخيلات و المتذكرات جسم يتفرق و يزيد بالاغتذاء و إذا كان كذلك- فمن الممتنع أن يبقى صورة خيالية بعينها لأن الموضوع إذا تبدل و تفرق بعد أن كان متحدا فلا بد و أن يتغير كل ما فيه من الصور ثم إذا زالت الصورة المتخيلة الأولى- فإما أن يتجدد بعد زوالها صورة أخرى تشابهها أو لا يتجدد و باطل أن يتجدد لأنه إذا حدث موضوع آخر كان حاله عند حدوثه كحال الموضوع الأول عند حدوثه و كما أن الموضوع الأول عند حدوثه كان محتاجا إلى اكتساب هذه الصورة من الحس الظاهر- فكذلك هذا الموضوع الذي تجدد ثانيا وجب أن يكون محتاجا إلى اكتساب هذه الصورة و يلزم من ذلك أن لا يبقى شي‏ء من الصور في الحفظ و الذكر لكن الحس تشهد بأن الأمر ليس كذلك فإذن الحفظ و الذكر ليسا جسمانيين بل إنما يوجدان في النفس و النفس إنما يكون لها ملكة الاسترجاع للصور المنمحية عنها بأن يتكرر عليها جميع تلك الصور فيصير استعداد النفس بقبولها لتلك الصور راجحا و يكون للنفس هيئة بها أمكنها أن يسترجع تلك الصورة متى شاءت من المبادي‏«1»المفارقة و حينئذ يكون الأمر في المتذكرات و المتخيلات على وزان المعقولات من جهة«2»أن النفس إذا اكتسبت ملكة الاتصال بالعقل الفعال‏«3»فإذا انمحت الصور المستحصلة تمكنت من استرجاعها متى شاءت من العقل الفعال كذا هاهنا إلا أن المشكل‏«4»أنه كيف ترتسم الأشباح الخياليةفي النفس ثم قال في آخر هذا الفصل و بهذا و بأمثاله يقع في النفس أن نفوس الحيوان غير الناطق أيضا جوهر غير مادي و أنه هو الواحد بعينه المشعور به و أنه هو الشاعر الباقي و أن هذه الأشياء آلات متبدلة عليه فهذا جملة ما يدل على صحة ما ادعيناه‏.

جلد9 ص2تا ص9

بسم الله الرحمن الرحيم-القسم الثاني في علم النفس‏- الباب الثامن في إبطال تناسخ النفوس و الأرواح و دفع ما تشبث به أصحاب التناسخ و فيه فصول‏

فصل (1) في إبطاله بوجه عرشي‏                                                                                                                                                                                            اعلم أن هذه المسألة من مزال الأقدام و مزالق الأفهام و منشأها أن الذي ورد في كلام السابقين الأولين من الأولين من الأنبياء الكاملين و الأولياء الواصلين يدل بظاهره على ثبوت النقل و التناسخ و الذي يحكى عن الأوائل كأفلاطون و سقراط و غيرهما له محمل صحيح عندنا كما سنبين و نحن بفضل الله و إلهامه علمنا ببرهان قوي على نفي التناسخ مطلقا سواء كان بطريق النزول أو الصعود و هو أن النفس كما علمت مرارا لها تعلق ذاتي بالبدن و التركيب بينهما تركيب طبيعي اتحادي و أن لكل منها مع الآخر حركة ذاتية جوهرية و النفس في أول حدوثها أمر بالقوة في كل ما لها من الأحوال و كذا البدن و لها في كل وقت شأن آخر من الشئون الذاتية بإزاء سن الصبا و الطفولية و الشباب و الشيخوخة و الهرم و غيرها و هما معا يخرجان من القوة إلى الفعل و درجات القوة و الفعل في كل نفس معينة بإزاء درجات القوة و الفعل في بدنها الخاص به ما دام تعلقها البدني و ما نفس إلا و تخرج من القوة إلى الفعل في مدة حياتها الجسمانية و لها بحسب الأفعال و الأعمال حسنة كانت أو سيئة ضرب من الفعلية و التحصل في الوجوب [الوجود] سواء كان في السعادة أو الشقاوة فإذا صارت بالفعل في نوع من الأنواع استحال صيرورتها تارة أخرى في حد القوة المحضة كما استحال صيرورةالحيوان بعد بلوغه إلى تمام الخلقة نطفة و علقة لأن هذه الحركة جوهرية ذاتية- لا يمكن خلافها بقسر أو طبع أو إرادة أو اتفاق فلو تعلقت نفس منسلخة ببدن آخر عند كونه جنينا أو غير ذلك يلزم كون أحدهما بالقوة و الآخر بالفعل و كون الشي‏ء بما هو بالفعل بالقوة و ذلك ممتنع لأن التركيب بينهما طبيعي اتحادي و التركيب الطبيعي يستحيل بين أمرين أحدهما بالفعل و الآخر بالقوة.

هذا ما سنح لنا بالبال و بيانه على الوجه المقرر عند القوم أن الصورة في كل مركب طبيعي من مادة و صورة سواء كانت نفسا أو طبيعة بينها و بين مادتها سواء كانت بدنا حيوانيا أو جسما طبيعيا آخر أو أمرا آخر نوع اتحاد لا يمكن زوال إحداهما و بقاء الأخرى- بما هما مادة أو صورة فإن نسبة المادة إلى الصورة نسبة النقص كما برهن عليه بالبيانات الحكمية و التعليمات الإلهية فوجود كل مادة أنما هو بصورتها التي يخرج بها من القوة إلى الفعل و هذية كل صورة من حيث ذاتها و ماهياتها بما هي تلك الصورة بمادتها التي هي حاملة تشخصها و مخصصة أحوالها و أفعالها الخاصة فإذا تكونت مادة من المواد فهي أنما تكونت بتكون صورتها معها التي من سنخها و إذا فسدت فسدت معها صورتها لما علمت أن صورة كل شي‏ء تمامه و كماله فوجود الشي‏ء الناقص من حيث هو ناقص مستحيل لأن تمام الشي‏ء مقومه و علته و كذا كمال الشي‏ء بما هو كماله إذا فسد فسد ذلك الشي‏ء نعم ربما تكون الصورة لا بما هي صورة لشي‏ء بل باعتبار كونها ذاتا مستقلة و صورة لذاتهما لها وجود آخر و حينئذ وجودها لا يستلزم وجود مادة معها و كذلك قد تكون لمادة الشي‏ء لا بما هي مادة له تقوم بصورة أخرى غير تلك الصورة فتوجد معها و تتحد بها في نحو آخر من الوجود و ذلك لأن حقيقة المادة في ذاتها حقيقة مبهمة جنسية شأنها الاتحاد بمبادي فصول متخالفة هي صور نوعية فكما أن كل حصة من الجنس إذا عدمت عدم معها الفصل المحصل لها و كذا عدم ذلك الفصل عدمت تلك الحصة الجنسية التي يتحد معها و يتقوم بها نوعا فكذلك حال كل نفس نسبتها إلى البدن الخاص بها في الملازمة بينهما في الكون و الفساد فإن النفس من حيث هي نفس هو بعينها صورة نوعية للبدن- و علة صورية لماهية النوع المحصل النفساني و البدن بما هو بدن مادة للنفس المتعلقة به‏و علة مادية للنوع و قد علمت غير مرة أن النفس ما دامت تكون ضعيفة الجوهر خسيسة الوجود تحتاج إلى مقارنة البدن الطبيعي كسائر الصور و الأعراض فإذا كان الأمر بينهما على هذا النحو كان التلازم في الوجود و المعية الذاتية بينهما على الوجه الذي تقدم ذكره في مبحث تلازم الهيولى ثابتا لا محالة فكان زوال كل منهما يوجب زوال الآخر- و لكن لما كان للنفوس البشرية نحو آخر من الوجود غير الوجود التعلقي الانفعالي الطبيعي- سواء كان عقليا محضا أو غيره ففسادها من حيث كونها نفسا أو صورة آخر طبيعية لا يوجب فساد ذاتها مطلقا لأن ذاتها قد تحصلت بوجود مفارقي و ذلك الوجود يستحيل تعلقه بمادة بدنية بعد انقطاعها فقد ثبت و تحقق أن انتقال نفس عن بدن إلى بدن آخر مستحيل- و هذا برهان عام يبطل به جميع أقسام التناسخ سواء كان من جهة النزول أو من جهة الصعود أو غير ذلك.

و ستعلم الفرق بين التناسخ و المعاد الجسماني بوجه مشرقي و كذا بينه و بين ما وقع في قوم موسى ع كما حكى الله تعالى عنه بقوله‏وَ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَ الْخَنازِيرَفالتناسخ بمعنى انتقال النفس من بدن عنصري أو طبيعي إلى بدن آخر منفصل عن الأول محال سواء كان في النزول إنسانيا و هو النسخ أو حيوانيا و هو المسخ أو نباتيا و هو الفسخ أو جماديا و هو الرسخ أو في الصعود و هو بالعكس من الذي ذكرناه- و إن كان إلى الجرم الفلكي كما ذهب إليه بعض العلماء و حكى الشيخ الرئيس عنه و صوب ما قاله في نفوس البله و المتوسطين من أنها تتعلق بعد انقطاعها بالموت الطبيعي عن هذا البدن إلى جرم فلكي.

و أما تحول النفس من نشأة الطبيعة الدنيوية إلى النشأة الأخروية و صيرورتها بحسب ملكاتها و أحوالها مصورة بصورة أخروية حيوانية أو غيرها حسنة بهية نورية أو قبيحة ردية ظلمانية سبعية أو بهيمية متخالفة الأنواع حاصلة من أعمالها و أفعالها الدنيوية الكاسبة لتلك الصورة و الهيئات فليس ذلك مخالفا للتحقيق بل هو أمر ثابت بالبرهان محقق عند أئمة الكشف و العيان مستفاد من أرباب الشرائع الحقة و سائر الأديان دلت عليه ظواهرالنصوص القرآنية و الأحاديث النبوية بل الكتاب و السنة مشحونة بذكر تجسم النفوس بصور أخلاقها و عاداتها و نياتها و اعتقاداتها تصريحا و تلويحا كما في قوله تعالى-ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ‏ءٍو قوله تعالى‏وَ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَ الْخَنازِيرَ وَ عَبَدَ الطَّاغُوتَ‏و قوله تعالى‏فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ‏و قوله تعالى‏شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ‏و شهادة الأعضاء بحسب هيئاتها المناسبة لملكاتها الحاصلة من تكرر أفعالها في الدنيا و قوله تعالى‏يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ- بِما كانُوا يَعْمَلُونَ‏فصورة الكلب مثلا و لسانه أو صوته الذي بواسطة لسانه تشهد بعمله الذي هو الشر و على سوء باطنه و عادته و كذا غيره من الحيوانات الهالكة تشهد عليها أعضاؤها بأفعالها السيئة و كقوله تعالى‏وَ نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى‏ وُجُوهِهِمْ‏و كقوله تعالى‏فِيها زَفِيرٌ وَ شَهِيقٌ‏و كقوله تعالى‏قالَ اخْسَؤُا فِيها وَ لا تُكَلِّمُونِ‏إلى غير ذلك من آيات النسخ.

و أما ما وقع في الحديث‏فكقوله ص: يحشر الناس على وجوه مختلفةأي على صور مناسبة لأعمالها المؤدية إلى ضمائرها و نياتها و ملكاتها المختلفة وكقوله ص: كما تعيشون تموتون و كما تنامون تبعثون‏و روي عنه أنه قال ص: يحشر بعض الناس على صورة يحسن عندها القردة و الخنازيرو في الحديث أيضا ما معناه‏: من خالف الإمام في أفعال الصلاة- يحشر و رأسه رأس حمارفإنه إذا عاش في المخالفة التي هي عين البلاهة تمكنت فيه- و لتمكن صفة الحماقة فيه يحشر على صورة الحمار و في حديث آخر في صفة المنافقين-يلبسون الناس جلود الضأن و قلوبهم كالذئاب‏هذا كله بحسب تحول الباطن من حقيقة الإنسانية قوة أو فعلا إلى حقيقة أخرى بهيمية أو سبعية و بالجملة ثبوت النقل على هذا الوجه تحول بحسب الباطن ثم حشر الأرواح إلى صورة تناسبها في الآخرة أمر وردفي جميع الأديان و لذا قيل ما من مذهب إلا و للتناسخ فيه قدم راسخ و ظني أن ما هو منقول عن أساطين الحكمة كأفلاطون و من قبله من أعاظم الفلاسفة مثل سقراط و فيثاغورث و أغاثاذيمون و أنباذقلس من إصرارهم على مذهب التناسخ لم يكن معناه إلا الذي ورد في الشريعة بحسب النشأة الآخرة.

و كذا ما نقل عن المعلم الأول من رجوعه من إنكار التناسخ إلى رأي أستاذه أفلاطون- كان في هذا المعنى من انبعاث النفوس الإنسانية الردية الناقصة في العلم و العمل أو في العلم فقط إلى صور تناسب نفوسها أما المجرمة الشقية فإلى صور الحيوانات المختلفة مناسبة لأخلاقها و عاداتها الردية التي غلبت عليهم في الدنيا و أما السليمة«1»المتوسطة فيهما أو الناقصة في العلم الكاملة في العمل فإلى صورة حسنة بهية مناسبة لأخلاقهم أيضا و ذلك لأن التناسخ على المعنى المشهور الذي ذهب إليه التناسخية مبرهن البطلان محقق الفساد و أما النفوس المبالغة إلى حد العقل بالفعل أي الكاملون في العلم سواء كملوا في العمل أو توسطوا فيه- فالجميع متفقون على خلاصهم عن الأبدان طبيعية كانت أو أخروية و سواء كان النقل الذي قالوا به حقا أو باطلا لكونهم منخرطين في سلك العقول المقدسة عن الأجرام و الأبعاد كما عن الحركات و المواد

فصل (2) في إبطال التناسخ بأقسامه و الإشارة إلى مذاهب أصحابه و هدم آرائهم‏

أما إبطال ما قاله بعض التناسخية-و هو انتقال النفوس الإنسانية من أبدانهم إلى أبدان الحيوانات المناسبة لها في الأخلاق و الأعمال من غير خلاف كما ذهب إليه شرذمة «1» قليلة من الحكماء المعروفين بالتناسخية و هم أقل الحكماء تحصيلا و أسخفهم رأيا حيث ذهبوا إلى امتناع تجرد شي‏ء من النفوس بعد المفارقة من البدن المخصوص لأنها جرمية دائمة التردد في أبدان الحيوانات و غيرها فهو أخف مئونة و أسهل مأخذا و ذلك لأنا نقول لا يخلو إما أن تكون منطبعة في الأبدان أو مجردة و كلاهما محال أما الأول فلما عرفت من استحالة انطباع النفوس الإنسانية و مع استحالته مناف لمذهبهم أيضا لامتناع انتقال المنطبعات صورا كانت أو أعراضا من محل إلى محل آخر مباين للأول-و إنما قيدنا المحل الآخر بالمباين لأن للصور الطبيعية استحالات و انتقالات ذاتية و استكمالات جوهرية من طور إلى طور و الأبدان أيضا تتحول بحسب الكمية و الكيفية بل النوعية أيضا على وجه الاتصال و ذلك غير مستحيل كما مر في عدة مواضع من هذا الكتاب- و أما الثاني فلأن العناية الإلهية تأبى ذلك لأنها مقتضية لإيصال كل موجود إلى غايته و كماله و كمال النفس المجردة أما العلمي فبصيرورتها عقلا مستفادا فيها صور جميع الموجودات و أما العملي فبانقطاعها عن هذه التعلقات و تخليتها عن رذائل الأخلاق و مساوي الأعمال و صفاء مرآتها عن الكدورات فلو كانت دائمة التردد في الأجساد من غير خلاص إلى النشأة الأخرى و لا اتصال إلى ملكوت ربنا الأعلى كانت ممنوعة عن كمالها اللائق بها أبد الدهر و العناية«2»تأبى ذلك.

و أما إبطال ما ذهب إليه طائفة أخرى‏ غير هؤلاء في هذا الباب فنحن ذاكروه و هو ضربان آخران. أحدهما ما نسب إلى المشرقيين‏أن أول منزل للنور الأسفهبد الصيصية الإنسانية- و يسمونها باب الأبواب لحياة جميع الأبدان الحيوانية و النباتية و هذا هو رأى يوذاسف التناسخي القائل بالأكوار و الأدوار و هو الذي حكم بأن الطوفان النوحي يقع في‏«1»أرضها و حذر بذلك قومه و قيل هو الذي شرع دين الصابئية لطهمورث الملك فقالوا إن الكاملين من السعداء تتصل نفوسهم بعد المفارقة بالعالم العقلي و الملإ الأعلى و تنال من السعادة ما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر و أما غير الكاملين من السعداء كالمتوسطين منهم و الناقصين في الغاية و الأشقياء على طبقاتهم فتنتقل نفوسهم من هذا البدن إلى تدبير بدن آخر على اختلافهم في جهة النقل حيث اقتصر بعضهم على تجويز النقل إلى تدبير بدن آخر من النوع الإنساني لا إلى غيره و بعضهم جوز ذلك و لكن اشترط أن يكون إلى بدن حيواني و بعضهم جوز النقل من البدن الإنساني إلى البدن النباتي أيضا و بعضهم إلى الجماد أيضا و إليه ميل إخوان الصفا.

و ثانيهما مذهب القائلين بالنقل من جهة الصعودفزعموا أن الأولى بقبول الفيض الجديد هو النبات لا غير و أن المزاج الإنساني يستدعي نفسا أشرف و هي التي جاوزت الدرجات النباتية و الحيوانية فكل نفس إنما يفيض على النبات فتنتقل في أنواعه المتفاوتة المراتب من الأنقص إلى الأكمل حتى تنتهي إلى المرتبة المتاخمة«2»لأدنى مرتبة من الحيوان كالنحل ثم ينتقل إلى المرتبة الأدنى من الحيوان كالدود مترقية منها إلى الأعلى فالأعلى حتى تصعد إلى رتبة الإنسان متخلصة إليها من المرتبة المتاخمة لها.

و لنذكر حججا على إبطال هذين المذهبين‏بعضها عامة يبطل بها التناسخ مطلقاو بعضها خاصة يبطل بها أحد الوجهين ليكون الناظر على بصيرة في طلب المذهب الحق في سلوك الآخرة.

أما الحجة العامةفهي أن النفس إذا تركت تدبير البدن لفساد المزاج و خروجه عن قبول تصرفها فلا يخلو حالها إما أن تنتقل إلى عالم العقل أو إلى عالم الأشباح الأخروية- أو إلى بدن طبيعي آخر من هذا العالم أو تصير معطلة عن تدبير نفساني فالاحتمالات‏«1»لا تزيد هذه الأربعة و الأخيران باطلان فبقي أحد الأولين أحدهما للمقربين و ثانيهما لأصحاب اليمين و أصحاب الشمال على طبقات لكل صنف فأما بطلان الأخيرين أما التعطيل فلما تقرر من أن التعطيل محال و أما التناسخ فلأنه إذا اشتغلت بتدبير بدن آخر فذلك البدن لا بد أن يحدث فيه استعداد خاص و قد مر«2»فيما سبق أن النفوس بما هي نفوس حادثة و أن حدوث الأشياء سيما الجواهر لا بد و أن ينتهي‏«3»إلى علل مفارقة غير جسمانية لامتناع كون جسم علة للنفس و لا كون صورة طبيعية علة لها- و لا أيضا كون نفس علة لها فإذا لم يكن جسم و لا صورة و لا نفس علة للنفس فالأعراض‏كذلك على الوجه الأولى....‏

جلد9 ص56تا ص65

فصل (5) في أن لكل شخص إنساني ذاتا واحدة هي نفسه و هي بعينها الحي المدرك السميع البصير العاقل و هي أيضا الغاذي و المنمي و المولد بل الجسم الطبيعي المتحرك النامي الحساس بوجه‏

اعلم أنا قد بينا هذا المعنى بوجه من البرهان فيما سبق إلا أنا نريد أن نوضح ذلك- زيادة إيضاح لما فيه من عظيم الجدوى في باب معرفة التوحيد الأفعالي للحق الأول- فنقول إن كل أحد منا يعلم بالوجدان قبل المراجعة إلى البرهان أن ذاته و حقيقته أمر واحد لا أمور كثيرة و مع ذلك يعلم أنه العاقل المدرك الحساس المشتهي و الغضبان و المتحيز و المتحرك و الساكن الموصوف بمجموع صفات و أسماء بعضها من باب العقل و أحواله و بعضها من باب الحس و التخيل و أحوالهما و بعضها من باب الجسم و عوارضه و انفعالاته و هذا و إن كان أمرا وجدانيا لكن أكثر الناس لا يمكنهم معرفته- من باب الصناعة العلمية بل أنكروا هذا التوحيد إذا جاءوا إلى البحث و التفتيش إلا من‏أيده الله بنور منه و من عجز عن توحيد نفسه كيف يقدر على توحيد ربه و الذي وصل إلينا من القدماء في هذه المسألة أنهم لما فرقوا أصناف الأفعال على أصناف القوى و نسبوا كل واحد منها إلى قوة أخرى احتاجوا إلى بيان أن في جملتها شي‏ء كالأصل و المبدأ- و أن سائر القوى كالتوابع و الفروع.

و لنذكر المذاهب المنقولة في هذا الباب‏و دليل كل فريق فذهب بعضهم إلى أن النفس واحدة و هم على قسمين.

فمنهم من قال إن النفس تفعل الأفاعيل بذاتها لكن بواسطة آلات مختلفة- يصدر عن كل قوة خاصة فعل خاص منها و هو مذهب الشيخ الرئيس و من في طبقته.

و منهم من قال إن النفس‏«1»ليست بواحدة و لكن في البدن نفوس عدة بعضها حساسة و بعضها مفكرة و بعضها شهوانية و بعضها غضبية.

أما المنكرون لوحدة النفس‏فقد احتجوا بما سبق ذكره من أنا نجد النبات و لها النفس الغذائية و الحيوانات و لها النفس الغذائية و الحساسة دون المفكرة و العقلية- فلما رأينا النفس النباتية موجودة مع عدم النفس الحساسة و الحساسة موجودة مع عدم النفس الناطقة علمنا أنها متغايرة إذ لو كانت واحدة لامتنع حصول واحد منها إلا عند حصول كلها بالاسم و لما ثبت تغايرها و استغناء بعضها عن بعض ثم رأيناها مجتمعة في الإنسان علمنا أنها نفوس متغايرة متعلقة ببدن واحد.

و هذا الاحتجاج ردي فإن كثيرا من الأنواع‏«2»البسيطة كالسواد قد يوجدبعض مقوماتها الموجودة بوجود واحد فيه كاللون موجودا في موضع مع عدم المقوم الآخر كقابض البصر و لا يلزم من ذلك أن وجود اللون غير وجود قابض البصر في حقيقة السواد.

و أيضا«1»ليست القوة الغذائية الموجودة في النبات مثلا هي القوة الغذائية الموجودة في الحيوان متحدة بالنوع و كذا ليست الحساسة الموجودة في الحيوان الغير الناطق مع الحساسة الموجودة في الإنسان متحدة في الحقيقة النوعية بل إنهما متحدان في المعنى الجنسي أعني إذا أخذ معناهما مطلقا بلا شرط الخلط و التجريد مع غيره فالحساس مثلا معنى واحد جنسي و إن كان هو فصلا للحيوان المأخوذ جنسا فإذا أخذ هذا المعنى أي الحساس بحيث يكون تام التحصل الوجودي فهو مما قد تم وجوده من غير استعداد و استدعاء لأن يكون له تمام آخر و هذا كما في سائر الحيوانات و إذا أخذ على أنه غير مستقل الوجود بل لا يتحصل وجوده و حقيقته إلا بأن يكون له تمام آخر به يتم حقيقته و يكمل وجوده فهذا المعنى مغاير للمعنى الأول بالنوع و إن كان واحدا معه بالجنس فالحكم بأن الحساس مغاير للناطق أنما يصح في القسم الأول منه دون القسم الثاني فالنفس الحساسة في سائر الحيوانات مغايرة للنفس المتفكرة و لكنها شي‏ء واحد في الإنسان و هكذا القول في النفس الغاذية التي في النبات و التي في الحيوان و الإنسان بالنسبة إلى النفس الحساسة أو الناطقة فاعلم هذه القاعدة فإنها تنفعك جدا-

و أما الموحدون‏فقد احتجوا على مذهبهم بأن قالوا قد دللنا على أن الأفعال‏ المتخالفة للنفس مستندة إلى قوى متخالفة و أن كل قوة من حيث هي هي لا يصدر عنه إلا فعل مخصوص فالغضبية لا تنفعل عن اللذات و الشهوية لا تتأثر عن المؤذيات و لا تكون القوة المدركة متأثرة مما تأثر عنه هاتان القوتان و إذا ثبت ذلك فنقول إن هذه القوى تارة تكون متعاونة على الفعل و تارة تكون متدافعة أما المتعاونة فلأنا نقول متى أحسسنا الشي‏ء الفلاني اشتهينا أو غضبنا و أما المتدافعة فلأنا إذا توجهنا إلى الفكر اختل الحس أو إلى الحس اختل الغضب أو الشهوة و إذا ثبت ذلك فنقول لو لا وجود«1»شي‏ء مشترك لهذه القوى يكون كالمدبر لها بأسرها و إلا لامتنع وجود المعاونة و المدافعة لأن فعل كل قوة إذا لم يكن مرتبطا بالقوة الأخرى و ليست الآلة مشتركة بل لكل منها آلة مخصوصة وجب أن لا تحصل بينها هذه المعاونة و إذا ثبت وجود شي‏ء مشترك فذلك المشترك إما أن يكون جسما أو حالا في الجسم أو لا جسما و لا حالا فيه و القسمان الأولان باطلان بما سبق في الفصول الماضية فبقي القسم الثالث و هو أن يكون مجمع هذه القوى كلها شيئا واحدا لا يكون جسما و لا جسمانيا و هو النفس.

أقول هذا كلام غير مجد في هذا الباب و لا واف بحل الإشكال فإن لأحد أن يقول ما دريتم بكون النفس رباطا لهذه القوى فإن عنيتم به أن النفس علة لوجودها- فهذا«2»القدر لا يكفي في كون النفس هي بعينها الحساس الغاذي الساكن الكاتب الضاحك بل كونها علة لوجود هذه القوى لا يكفي في كون البعض معاونا للآخر على فعله أو معاوقا له فإن العلة إذا أوجدت قوى مخصوصة في محال متباينة و أعطت لكل واحدة منها آلة مخصوصة كان كل واحدة منها منفصلة عن الأخرى غنية عنها متعلقة بها بوجه من الوجوه فشروع بعضها في فعله الخاص كيف يمنع الآخر عن فعله أ ليس أن العقل الفعال عندكم مبدأ لوجود جميع القوى الموجودة في الأبدان فيلزم من كونها بأسرها معلولة لمبدإ واحد و علة واحدة أن يعوق البعض عن البعض أو يعينه على ذلك. و إن عنيتم به أن النفس مدبرة لهذه القوى و محركة لها فهذا يحتمل وجهين :

 أحدهما أن يقال إن النفس تبصر المرئيات و تسمع المسموعات و تشتهي المشتهيات- و تكون ذاتها محلا لهذه القوى و مبدأ لهذه الأفعال و متصفة بصفاتها و هذا هو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه و لكن من الذي أحكمه و أتقنه و دفع الشكوك و أزاح العلل المانعة لإدراكه فإن الأمر إذا كان كذلك فكيف يقع‏«1»و يسوغ القول بتعدد القوى و يحصل التدافع تارة في فعلها إذا كان الكل جوهرا واحدا له هوية واحدة و بالجملة القول به يوجب القول ببطلان القوى التي أثبتها الشيخ و غيره من الحكماء في الأعضاء المخصوصة المختلفة المواضع فإن النفس إذا كانت هي الباصرة و السامعة و المشتهية فأي حاجة إلى إثبات قوة باصرة في الروح التي في ملتقى العصبتين و إلى إثبات قوة سامعة في الروح التي في العصب المفروش الصماخي.

و أيضا يلزم أن يكون الإنسان إنما أبصر و سمع لا بإبصار و سماع قائم بذاته بل بإبصار و سماع قائم بغيره

و الوجه الثاني أن يقال إن المعنى بكون النفس رباطا أن القوة الباصرة إذا أدركت صورة شخص معين أدركت النفس‏«2»الناطقة أن في الوجود شخصا موصوفا بلون كذا و شكل كذا و وضع كذا و كل على وجه كلي لا يخرج انضمام بعضه إلى بعض في شي‏ء من ذلك الشي‏ء عن الكلية فإنك قد عرفت أن الكلي إذا قيد بصفات كفليةو إن كانت ألف صفة لا يصير بذلك جزئيا شخصيا و بالجملة فالإحساس بذلك الجزئي- سبب لاستعداد النفس لأن تدرك ذلك الجزئي على وجه كلي ثم يكون ذلك الإدراك سببا باعثا لطلب كلي لتحصيل ذلك الشي‏ء فعند ذلك يتخصص ذلك الطلب و يصير جزئيا لتخصص القابل و ذلك الطلب الجزئي هو الشهوة و كذا قياس الغضب و سائر الأحوال الجزئية المنسوبة إلى النفس الإنسانية فهذا غاية ما يمكن أن يقرر في كون النفس رباطا للقوى الجسمانية و مجمعا على مذهب الشيخ و أتباعه.

و أقول ليس هذا بسديد لأن نسبة الشهوة و الغضب و الحس و الحركة و سائر الأفعال الجزئية و الانفعالات الشخصية إلى النفس ليست كنسبة فعل أمر مباين إلى أمر آخر من شأنه أن يدرك على وجه كلي كل ما يدركه الآخر على وجه جزئي و إلا لكان العقل الفعال أيضا ذا شهوة و غضب و حس و حركة كما أن الإنسان كذلك مع أنا نعلم ضرورة أنه بري‏ء من هذه الآثار و الشواغل و الانفعالات و أنا نجد من أنفسنا أن لنا ذاتا واحدة تعقل و تحس و تدرك و تتحرك و تعتريه الشهوة و الغضب و غيرهما من الانفعالات و نعلم أن الذي يدرك الكليات منا هو بعينه يدرك الشخصيات و أن الذي يشتهي منا هو بعينه الذي يغضب و كذا الكلام في سائر الصفات المتقابلة و لا يكفي في هذه الجمعية وحدة النسبة التأليفية كالنسبة بين الملك و جنوده و صاحب البيت و أولاده و عبيده و إمائه بل لا بد من وحدة طبيعية ذات شئون عديدة كما يعرفه الراسخون في علم النفس و منازلها و في معرفة الوجود الحق و شئونه الإلهية المستفادة من علم الأسماء الذي علم الله به آدم ع المشار إليه في قوله تعالى‏وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّهاو قد أشرنا إلى تحقيق ذلك في مواضع من هذا الكتاب لمن كان له قلب أو ألقى السمع و هو شهيد حيث بينا أن الوجود كلما كان أشد قوة و بساطة كان أكثر جمعا للمعاني و أكثر آثارا و أن العوالم ثلاثة عالم العقل و عالم النفس الحيواني و عالم الطبيعة و الأول‏«1»مصون عن الكثرة بالكلية و الثاني مصون عن الكثرةالوضعية و الانقسام المادي و الثالث مناط الكثرة و التضاد و الانقسام إلى المواد.

و إذا تقرر هذا فنقول إن النفس الإنسانية من بين سائر النفوس الحيوانية لها مقامات ثلاثة مقام العقل و القدس و مقام النفس و الخيال و مقام الحس و الطبيعة- و كلما يوجد لها من الصفات و الأفعال في شي‏ء من هذه المقامات يوجد في مقام آخر- لكن كل بحسبه‏«1»من الوحدة و الكثرة و الشرف و الخسة و البراءة و التجسم- فهذه الحواس و القوى الإدراكية و التحريكية موجودة في مادة البدن بوجودات متفرقة- لأن المادة موضوع للاختلاف و الانقسام و محل للتضاد و التباين فلا يمكن أن يكون موضع البصر موضع السمع و لا محل الشهوة هو محل الغضب و لا آلة البطش آلة المشي كذا يقوم بعضو من الإنسان ألم حسي لمسي كتفرق الاتصال و بعضو آخر راحة لمسية كالالتيام ثم نجد هذه القوى كلها موجودة في مقام الخيال و عالم النفس الحيواني بوجودات متميزة متكثرة في الخيال متحدة في الوضع بل لا وضع لها كما مر فلها حس واحد مشترك يسمع و يرى و يشم و يذوق و يلمس سمعا جزئيا و بصرا جزئيا و شما و ذوقا و لمسا جزئيا من غير أن ينقسم و يفترق مواضعها كما في الحواس الظاهرة و كذا يشتهي و يغضب و يتألم و يسر من غير تفرق اتصال و لا التيام تفرق‏كل ذلك متكثر في عالم الحس الظاهر غير متكثر في عالم الحس الباطن ثم نجد«1»الجميع موجودة في مقام العقل على وجه مقدس عن شوب كثرة و تفصيل معرى عن شوب تفرقة و قسمة وضعية جسمية أو خيالية جزئية لكنها مع‏«2»ذلك كثيرة بالمعنى و الحقيقة غير مفقود منها شي‏ء فالإنسان العقلي روحاني و جميع أعضائه عقلية موجودة في ذلك الإنسان- بوجود واحد الذات كثيرة المعنى و الحقيقة فله وجه عقلي و بصر عقلي و سمع عقلي- و جوارح عقلية كلها في موضع واحد لا اختلاف فيه كما أفاده أرسطاطاليس في أثولوجيا.

فإن قلت إذا كانت النفس هي بعينها المدركة لجميع الإدراكات العمالة لجميع الأعمال فما الحاجة إلى إثبات هذه القوى الكثيرة التي بعضها من باب الإدراك كالسمع و البصر و غيرهما و بعضها من باب التحريك كالجاذبة و الدافعة و الشهوة و الغضب.

قلنا هي‏«3»و إن كانت كل هذه القوى إلا أن وجود هذه القوى و ظهورها في‏عالم المواد لا يمكن إلا بآلات جسمانية متباينة متخالفة الوضع لأن عالم الجسم عالم التفرقة و الانقسام لا يمكن أن يكون جسم واحد مع طبيعة واحدة عنصرية مبدأ لصفات كثيرة كالسمع و البصر و غيرهما من صفات الإدراك و هيئات التحريك فعضو واحد لا يمكن أن يكون سمعا و بصرا و جاذبة و دافعة لنقصان وجوده عن جامعية المعاني- بخلاف جوهر روحاني بحسب وجوده الجمعي النفساني الروحاني فالذات الواحدة النفسية مبدأ لجميع الأفاعيل الصادرة عن قواها المتفرقة المتشتتة في مواضع مختلفة على نعت الاتحاد و الجمعية و كذا الذات العقلية بصرافة وحدتها جامعة لجميع الكمالات- و المعاني الموجودة في سائر القوى النفسانية و الحسية و الطبيعية لكن على وجه أشرف و أعلى و على وجه يليق بوجودها العقلي كما بيناه مرارا.

فإن قلت ما الفرق‏«1»بين العقل المفارق و بين النفس في هذه الجمعية حيث إن النفس احتاجت في الاتصاف بمعاني القوى من وجود آلات و أعضاء مختلفة و لم يقع الاكتفاء بوجود ذاتها من غير تعدد هذه القوى و موادها المختلفة و أعضائها و أما العقل‏ فلم يقع له في صدور أفعاله و ظهور معانيه و حالاته حاجة إلى مواد و آلات عديدة.

قلنا صفات العقل و كمالاته تنزل منه إلى المواد الخارجية على سبيل الإفاضة و الإيجاد من غير أن يتأثر منها أو ينفعل و يستكمل بسببها و أما النفس فليس لها أن تستقل بذاتها و تتبرأ عن التغير و الانفعال من خوادمها و آلاتها إلا بعد أن تصير عقلا محضا ليس له جهة نقص و لا كمال منتظر و أما قبل ذلك فهي ذات أطوار مختلفة- تحتاج إلى كلها فتارة في مقام الحس و الطبيعة و تارة في مقام النفس و التخيل و طورا في مقام العقل و المعقول و هذا حالها ما دامت متعلقة الذات بهذا البدن الطبيعي فإذا انقطعت عن هذا العالم كان مقامها إما المقام العقلي المجرد إن كانت من الكاملين في العلم و العمل و إما المقام الثاني المثالي الأخروي إن لم يكن كذلك على اختلاف أنواعها بحسب غلبة الملكات و الأحوال و تصورها بصورة ما يناسبها من الأنواع الأخروية .

جلد9 ص185تا ص220

الباب الحادي عشر في المعاد الجسماني و ما يرتبط به من أحوال الآخرة و مقاماتها و فيه فصول                                                                                                              فصل (1) في ذكر أصول يحتاج إليها في إثبات هذا المقصد أو ينتفع بها فيه‏

و هذه الأصول و المقدمات قد مر بيانها في هذا الكتاب مستقصى لكن الغرض استحضارها و اجتماعها لئلا يذهل عنها و يقع إعمال الروية فيها و هي هذه.

الأصل الأول‏«1»أن الوجود في كل شي‏ء هو الأصل في الموجودية و الماهية تبع له‏و أن حقيقة كل شي‏ء هو نحو وجوده الخاص به دون ماهيته و شيئيته و ليس الوجود كما زعمه أكثر المتأخرين أنه من المعقولات الثانية و الأمور الانتزاعية التي لا يحاذي بها أمر في الخارج بل حق القول فيه أن يقال إنه من الهويات العينية التي لا يحاذيها أمر ذهني و لا يمكن الإشارة إليها إلا بصريح العرفان الشهودي.

الأصل الثاني أن تشخص كل شي‏ء و ما يتميز به هو عين وجوده الخاص‏و أن الوجود و التشخص متحدان ذاتا متغايران مفهوما و اسما و أما المسمى عند القوم بالعوارض المشخصة فليست إلا أمارات و لوازم للهوية الشخصية الوجودية لا بأعيانها و أشخاصها بل على سبيل البدلية في عرض يكون لها من حد إلى حد فيتبدل كثير منها بل كلها و الشخص هو هو بعينه.

الأصل‏«1»الثالث أن طبيعة الوجود قابلة للشدة و الضعف‏بنفس ذاتها البسيطة- التي لا تركيب فيها خارجا و لا ذهنا و لا اختلاف بين أعدادها بمميز فصلي ذاتي أو بمصنف عرضي أو بمشخص زائد على أصل الطبيعة و إنما تختلف أفرادها و آحادها بالشدة و الضعف الذاتيين و التقدم و التأخر الذاتيين و الشرف‏«2»و الخسة الذاتيين إلا أن المفهومات الكلية الصادقة عليها بالذات المنتزعة عنها لذاتها و هي المسماة بالماهيات- متخالفة بحسب الذات اختلافا جنسيا أو نوعيا أو عرضيا و لهذا يقال إن الوجود مختلف الأنواع و إن مراتب الأشد و الأضعف أنواع متخالفة.

الأصل الرابع أن الوجود مما يقبل الاشتداد و التضعف‏يعني أنه يقبل الحركة الاشتدادية و أن الجوهر في جوهريته أي وجوده الجوهري يقبل الاستحالة الذاتية و قد ثبت أن أجزاء الحركة الواحدة المتصلة و حدودها ليست موجودة بالفعل على نعت الامتياز- بل الكل‏«3»موجود بوجود واحد فليس شي‏ء من تلك الماهيات التي هي بإزاء تلك المراتب الوجودية موجودة بالفعل بوجودها على وجه التفصيل بل لها وجود إجمالي كما في أجزاء الحد على ما أوضحناه سابقا.

الأصل الخامس‏«4»أن كل مركب بصورته هو هولا بمادته فالسرير سرير بصورته‏لا بمادته و السيف سيف بحدته لا بحديده و الحيوان حيوان بنفسه لا بجسده و إنما المادة حاملة قوة الشي‏ء و إمكانه و موضوعة انفعالاته و حركاته حتى لو فرضت صورة المركب قائمة بلا مادة لكان الشي‏ء بتمام حقيقته موجودا و بالجملة نسبة المادة إلى الصورة نسبة النقص إلى التمام فالنقص يحتاج إلى التمام و التمام لا يحتاج إلى النقص و كذلك الفصل الأخير في الماهيات المركبة من الأجناس و الفصول كالناطق في الإنسان هو أصل الماهية النوعية و سائر الفصول و الأجناس من اللوازم الغير المجعولة لهذا الأصل فقد يقع في تعريفه الحدي و إنما دخولها في الحد بما هو محدود و توضيح‏«1»هذا المقام أن الماهية المركبة التي لها وحدة طبيعية هي التي أجناسها و فصولها بحذاء أجزائها المادية و الصورية كما مر في مبحث الماهية فنقول لتلك الماهية اعتباران اعتبار كثرتها و تفصيلها و اعتبار وحدتها و إجمالها فإذا نظرت إليها من جهة وجودها التفصيلي و أردت تحديدها فلا بد لك من إيراد جميع المعاني التي هي بحذاء تلك الأجزاء و إذا نظرت إليها من الجهة التي هي بها واحد و هي صورتها الكمالية و أردت تحديدها فهذا التحديد لا يكون بالأجزاء- لأن الصورة بسيطة لا جزء لها خارجا و لا ذهنا كما هو التحقيق بل باللوازم لكن ليست هذه اللوازم كسائر اللوازم التي لها وجود غير وجود ملزومها بل هي كلها صادقة على تلك الصورة البسيطة الكمالية منتزعة منها بحسب ذاتها بذاتها من غير انضمام شي‏ء إليها و هي‏مع ذلك ليست داخلة في ماهيتها إذ لا ماهية لها«1»غير الإنية لما سبق أن الصور الكمالية للأشياء هي وجودات محضة متفاوتة في الموجودية و قد مر أن الوجود لا حد له- لكن التعريف بمثل تلك اللوازم ليس بأدون و أنقص من التعريف الحدي بالأجناس و الفصول لأن تلك الأجناس و الفصول متحدة بها منتزعة منها و هذا معنى ما ذكره الشيخ الرئيس في الحكمة المشرقية أن البسائط قد يحد باللوازم التي توصل الذهن إلى حاق الملزومات و التعريف بها ليس أقل من التعريف بالحدود انتهى و سر هذا«2»القول- و هاهنا أيضا من المواضع التي يكون للحد زيادة على المحدود كما مر ذكره و تعريف المبادي الوجودية لا يكون إلا على هذا الوجه و هكذا تعريف القوى بأفاعيلها فقد علم بما ذكرناه أن للإنسان وجودين وجود تفصيلي و وجود إجمالي فوجوده التفصيلي أنما يتحقق بمادة جوهرية و صورة اتصالية مقدارية و صورة هي مبدأ النمو و التغذية و أخرى مبدأ الحس و الحركة الاختيارية و أخرى ناطقة فيقال في حده أنه جوهر قابل للأبعاد نام حساس مدرك للكليات و هذه الأجزاء مترتبة في الوجود متفاضلة في الشرف و الكمال- و كلما يترتب على الأقدم الأخس و يلزمه يترتب على الآخر الأشرف و يلزمه على الوجه الألطف الأبسط و أما وجوده الإجمالي فإنما يتحقق بنفسه الناطقة التي توجد فيها جميع هذه المعاني على وجه أبسط و أعلى.

الأصل السادس‏«3»أن الوحدة الشخصية في كل شي‏ءو هي عين وجوده ليست على‏وتيرة واحدة و درجة واحدة كالوجود ليس على نحو واحد فالوحدة الشخصية في المقادير المتصلة عين متصليتها و امتدادها و في الزمان و المتدرجات الوجود عين تجددها و تقضيها- و في العدد عين كثرتها بالفعل و في الأجسام الطبيعية عين كثرتها بالقوة و أيضا حكمها في الجواهر المجردة غير حكمها في الجواهر المادية فالجسم الواحد يستحيل أن يكون موضوعا لأوصاف متضادة كالسواد و البياض و الحلاوة و المرارة و الألم و اللذة و ذلك لنقص وجوده و ضيق وعائه عن الجمع بين الأمور المتخالفة فموضع البصر في بدن الإنسان غير موضع السمع و موضع الشم غير موضع الذوق و أما الجوهر النفساني فإنه مع وحدته يوجد فيه صورة السواد و البياض و غيرهما من المتقابلات و كلما زاد الإنسان تجردا و تجوهرا و اشتد قوة و كمالا صار إحاطته بالأشياء أكثر و جمعيته للمتخالفات أتم فهو يتدرج في الكمال حتى يستوفي في نفسه أي ذاته هيئة الوجود كله فينقلب كما ذكره الشيخ في إلهيات الشفاء عالما معقولا موازيا للعالم المحسوس كله مشاهدا لما هو الحسن المطلق و الخير المطلق و الجمال المطلق و متحدة به و منتقشة بمثاله و منخرطة في سلكه و صائرة من جوهره و مما يبين ذلك و يوضحه أن المدرك بجميع الإدراكات الحسية و الخيالية و العقلية و الفاعل بجميع الأفاعيل الطبيعية و الحيوانية و الإنسانية الواقعة من الإنسان هو نفسه المدبرة فلها النزول إلى مرتبة الحواس و الآلات الطبيعية و لها الصعود«1»إلى مرتبةالعقل الفعال و ما فوقه في آن واحد و ذلك لسعة وجودها و وفور نورها المنتشرة في الأطراف و الأكناف فذاتها تتطور بالشئون و الأطوار و تتنزل بأمر الله إلى منازل القوى و الأعضاء- فإذا نزلت بساحة المواد و الأجساد كان حكمها حكم القوى و إذا رجعت إلى ذاتها و حاق جوهرها و ذلك عند تمامها كانت الكل في وحدة فمن هذا الأصل يتبين أن شيئا واحدا- يجوز كونه متعلقا بالمادة تارة و مجردا عنها أخرى و أما ما اشتهر«1»عند أتباع المشائيين- أن نحوي الوجود الرابطي و الاستقلالي لا يجتمعان في شي‏ء واحد فهو غير مبرهن عليه إلا أن يراد في وقت واحد من جهة واحدة

الأصل السابع أن هوية البدن و تشخصه أنما يكونان بنفسه لا بجرمه‏فزيد مثلا زيد بنفسه‏«2»لا بجسده و لأجل ذلك يستمر وجوده و تشخصه ما دامت النفس باقية فيه و إن تبدلت أجزاؤه و تحولت لوازمه من أينه و كمه و كيفه و وضعه و متاه كما في طول عمره و كذا القياس لو تبدلت صورته الطبيعية بصورة مثالية كما في المنام و في عالم القبر و البرزخ إلى يوم البعث أو بصورة أخروية كما في الآخرة فإن الهوية الإنسانية في جميع هذه التحولات و التقلبات واحدة هي هي بعينها لأنها واقعة على سبيل الاتصال الوحداني التدريجي و لا عبرة بخصوصيات جوهرية و حدود وجودية واقعة في طريق هذه الحركة الجوهرية و إنما العبرة بما يستمر و يبقى و هي النفس لأنها الصورة التمامية في الإنسان- التي هي أصل هويته و ذاته و مجمع ماهيته و حقيقته و منبع قواه و آلاته و مبدأ أبعاضه و أعضائه و حافظها ما دام الكون الطبيعي ثم مبدلها على التدريج بأعضاء روحانية و هكذا إلى أن تصير بسيطة عقلية إذا بلغت إلى كمالها العقلي بتقدير رباني و جذبة إلهية و إلافإلى أي حد وقع الانقطاع إليه لأجل أسباب قاطعة مانعة عن البلوغ إلى الكمال الأخير يطول شرحها فإذا سئل عن بدن زيد مثلا هل هو عند الشباب ما هو عند الطفولية و عند الشيخوخة كان الجواب بطرفي النفي و الإثبات صحيحا باعتبارين أحدهما«1»اعتبار كونه جسما بالمعنى الذي هو مادة و هو في نفسه أمر محصل و الثاني اعتبار كونه جسما- بالمعنى الذي هو جنس و هو أمر مبهم فالجسم بالمعنى الأول جزء من زيد غير محمول عليه و بالمعنى الثاني محمول عليه متحد معه و أما إذا سئل عن زيد الشاب هل هو الذي كان طفلا و سيصير هو بعينه كهلا و شيخا كان الجواب واحدا و هو نعم لأن تبدل المادة لا يقدح في بقاء المركب بتمامه لأن المادة معتبرة لا على وجه الخصوصية و التعين بل على وجه الجنسية و الإبهام و قد مر الفرق في مباحث الماهية من العلم الكلي و الفلسفة العامة- بين الجنس و المادة و هو كالفرق بين الماهية المطلقة و المأخوذ بشرط التجريد و نظير الفرق بينهما الفرق بين الفصل و الصورة و العرضي و العرض بكل من هذه الأمور محمول على الشي‏ء بالاعتبار الأول غير محمول عليه بالاعتبار الثاني.

الأصل الثامن أن القوة الخيالية«2»جوهر قائم لا في محل من البدن و أعضائه‏و لا هي موجودة في جهة من جهات هذا العالم الطبيعي و إنما هي مجردة عن هذا العالم واقعة في عالم جوهري متوسط بين العالمين عالم المفارقات العقلية و عالم الطبيعيات المادية- و قد تفردنا بإثبات هذا المطلب ببراهين ساطعة و حجج قاطعة كما مرت.

الأصل التاسع أن الصور الخيالية بل الصور الإدراكية ليست حالة في موضوع النفس و لا في محل آخر و إنما هي قائمة بالنفس قيام الفعل بالفاعل لا قيام المقبول بالقابل و كذا الإبصار عندنا ليس بانطباع شبح المرئي في عضو كالجليدية و نحوها كما ذهب إليه الطبيعيون و لا بخروج الشعاع كما زعمه الرياضيون و لا بإضافة علمية تقع للنفس إلى الصورة الخارجية عند تحقق الشرائط كما ظنه الإشراقيون لأن هذه الآراء كلها باطلة كما بين في مقامه أما المذهبان الأولان فإبطال كل منهما مذكورة في الكتب‏المشهورة على وجوه عديدة و قد تصدى كل من الفريقين لإبطال رأي صاحبه و نقضه و جرحه و كفى الله المؤمنين القتال و أما المذهب الأخير الذي اختاره الشيخ أبو نصر في الجمع بين الرأيين و الشيخ المقتول في حكمة الإشراق فنحن قد أبطلناه كما مر ذكره- و اعلم أن النفس ما دامت متعلقة بالبدن كان إبصاره بل إحساسه مطلقا غير تخيله لأن في الأول يحتاج إلى مادة خارجية و شرائط مخصوصة و في الثاني لا يفتقر إليها و أما عند خروجها عن هذا العالم فلا يبقى الفرق بين التخيل و الإحساس إذ القوة الخيالية و هي خزانة الحس قد قويت و خرجت عن غبار البدن و زال عنها الضعف و النقص- و اتحدت القوى و رجعت إلى مبدئها المشترك فتفعل النفس بقوته الخيالية ما تفعله بغيرها- و ترى بعين الخيال ما كانت تراه بعين الحس و صارت قدرتها و علمها و شهوتها شيئا واحدا فإدراكها للمشتهيات نفس قدرتها و إحضارها إياها عندها بل ليس في الجنة إلا شهوات النفس و مراداتها كما قال تعالى‏فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ‏و قوله‏فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَ تَلَذُّ الْأَعْيُنُ‏.

الأصل العاشر أن الصور المقدارية و الأشكال و الهيئات الجرميةكما تحصل من الفاعل بمشاركة المادة القابلة بحسب استعداداتها و انفعالاتها كذلك قد تحصل من‏«1»الجهات الفاعلية و حيثياتها الإدراكية من غير مشاركة المادة و من هذا القبيل وجود الأفلاك و الكواكب من المبادي العقلية على سبيل الاختراع بمجرد التصورات إذ قبل‏الأجسام الأولية ليست مواد سابقة عليها و من هذا القبيل الصور الخيالية الصادرة من النفس بالقوة المصورة«1»من الأجرام و الأعظام المشكلة التي ربما تكون أعظم من الأفلاك- الكلية الخارجية و كذلك الصحارى و المفاوز الواسعة و الجبال العظيمة و البلاد و الجنات و الأشجار التي لم يخلق مثلها في البلاد و إنها ليست قائمة بالجرم الدماغي و لا حالة في القوة الخيالية كما برهن عليه و لا في عالم المثال الكلي كما بيناه سابقا بل في مملكة النفس و عالمها و صقعها الخارج عن هذا العالم الهيولاني و قد سبق أن الصور التي يتصورها النفس بقوتها المصورة و تراها بباصرتها الخيالية لها وجود لا في هذا العالم و إلا ليراها كل سليم الحس و ليس كذلك بل في عالم آخر غائب عن هذا العالم و لا فرق بينها و بين ما تراها النفس بقوة الحس إلا بعدم ثباتها و ضعف تجوهرها لاشتغال النفس‏«2»بغيرهاو تفرق همتها و توزع خاطرها بما تنفعل من المؤثرات الخارجية و تشتغل بها حتى لو فرض أن يرتفع عنها الاشتغال بأفاعيل سائر القوى الحيوانية و الطبيعية و تكون مصروفة الهمة إلى فعل التخيل و التصور تكون الصور و الأجسام التي تتصورها و تفعلها بقوة الخيال في غاية ما لها من القوام و تأكد الوجود و يكون تأثيرها أقوى من تأثير المحسوسات المادية كما يحكى عن أهل الكرامات و خوارق العادات و إذا كان حال النفس في تصوير الأشياء على هذا الوجه و هي بعد في الدنيا ذات تعلق ببدنها فما ظنك إذا انقطعت علائقها عن الدنيا بالكلية و قويت قوتها و تأكدت فعليتها فكل نفس إنسانية فارقت الدنيا و كانت من أهل السلامة- عن الأمراض النفسانية و ذمائم الأخلاق و الملكات غير مرتهن بما يزعجها و يؤذيها و يمنعها عن الرجوع إلى ذاتها تكون لها عالم خاص بها فيه من كل ما تريده و تشتهيه و هذا أدنى مرتبة من مراتب السعداء فإن كل أحد منهم له جنة عرضها كعرض السماوات و منازل الأبرار و المقربين فوق هذا إلى ما لا يحصى‏

الأصل الحادي عشر أنك قد علمت أن أجناس العوالم و النشئات‏مع كثرتها التي لا تحصى منحصرة في ثلاثة و إن كانت دار الوجود واحدة لارتباط بعضها ببعض أدناها عالم الصور الطبيعية الكائنة الفاسدة و أوسطها عالم الصور الإدراكية الحسية المجردة عن المادة الحاملة للإمكانات و الاستعدادات القابلة للمتضادات و أعلاها عالم الصور العقلية و المثل الإلهية فاعلم أن النفس الإنسانية مختصة من بين الموجودات بأن لها هذه الأكوان الثلاثة مع بقائها بشخصها فللإنسان الواحد من مبدإ طفوليته كون طبيعي و هو بحسبه إنسان بشري ثم يتدرج في هذا الوجود و يتصفى و يتلطف شيئا فشيئا في تجوهره إلى أن يحصل له كون آخر نفساني و هو بحسبه إنسان نفساني أخروي يصلح للبعث و القيام- و له أعضاء نفسانية و هو الإنسان الثاني ثم قد ينتقل من هذا الكون أيضا على التدريج- فيحصل له كون عقلي و هو بحسبه إنسان عقلي و له أعضاء عقلية و هو الإنسان الثالث كما ذكره معلم الفلاسفة في كتاب أثولوجيا و هذه الانتقالات و التحولات التي يقطع بها الشخص الواحد سبيل الحق إلى الغاية القصوى مختصة بنوع الإنسان فإن الأشياء و إن كانت كلها متوجهة إلى الحضرة الإلهية لكن الذي يمر على الصراط المستقيم منتهيا إلى‏النهاية الأخيرة لا يوجد في غير هذا النوع من سائر الأنواع الكونية ثم لا بد لغيره لو فرض سلوكه إلى الحضرة القدسية أن ينتقل نوعه إلى نوع آخر بالكون و الفساد و أن يصل أولا إلى باب الإنسانية ثم منها إلى باب الحضرة القدسية و هذه النشئات الثلاث ترتيبها- في الرجوع الصعودي إلى الله تعالى على عكس ترتيبها الابتدائي النزولي عنه تعالى- لكن على نحو آخر فإن سلسلة الابتداء كانت على نحو الإبداع بلا زمان و حركة و سلسلة الرجوع تكون بحركة و زمان فللإنسان أكوان سابقة على حدوثه الشخصي المادي- و لهذا قد أثبت أفلاطون الإلهي للنفوس الإنسانية كونا عقليا قبل حدوث البدن و كذلك ثبت في شريعتنا الحقة لأفراد البشر كينونة«1»جزئية متميزة سابقة على وجودها الطبيعي- كما أشار إليه بقوله تعالى‏وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ‏إلخ و عن أئمتنا المعصومين أحاديث كثيرة دالة على أن أرواح الأنبياء و الأوصياء كانت مخلوقة من طينة عليين‏«2»قبل خلق السماوات و الأرضين و أن أبدانهم مخلوقة«3»من دون تلك الطينة- كأرواح متابعيهم و شيعتهم و أن قلوب المنافقين مخلوقة من طينة سجين و أبدانهم و كذلك قلوب متابعيهم مخلوقة من دون تلك الطينة الخبيثة فهذا الخبر و أمثاله يدل على أن للإنسان أكوانا سابقة على هذا الكون فالإنسان بحسب الفطرة الأصلية يتوجه نحوالآخرة على التدريج و يرجع إلى غاية مقصوده فيبتدي بوجوده الدنيوي المادي إلى وجوده الأخروي الصوري إذ نسبة الدنيا إلى الأخرى نسبة النقص إلى الكمال و نسبة الطفل إلى البالغ و لهذا يحتاج في هذا الوجود كالأطفال لضعفهم و نقصهم إلى مهد هو المكان و داية«1»هو الزمان فإذا بلغ أشده‏«2»الجوهري يخرج من هذا الوجود الدنيوي إلى وجود أخروي و يستعد للخروج من هذه الدار إلى دار القرار و إلى هذا الحد من الوجود النفساني و الاستقلال الجوهري الصوري المعبر عنه بنفخ الصور الموجب للموت الطبيعي و الخروج من هذه النشأة مما يقع فيه الاشتراك بين المؤمن و الكافر و الموحد و المشرك و المعطل إذ لا منافاة بين هذا الكمال الوجودي و الاستغناء عن المادة البدنية و بين الشقاوة و التعذيب بنار الجحيم و إدراك العذاب الأليم بل يؤكدها فإن شدة الوجود يوجب الخروج عن الغواشي و الملابس المادية و هو يوجب شدة الإدراك للمؤلمات و المؤذيات- و نتائج الأعمال القبيحة و السيئات و الأمراض و العلل النفسانية التي كان الذهول عنها في الدنيا لخدر الطبيعة و غشاوة على البصيرة فإذا زال الحجاب حل العذاب فالنفس ما لم تقطع جميع الحدود الطبيعية ثم النفسانية لم يصل إلى جوار الله و لم يستحق مقام العندية فالموت أول منازل الآخرة و آخر منازل الدنيا و الإنسان بعد خروجه عن الدنيا- قد يكون محبوسا في البرازخ المتوسطة بين الدارين الدنيا و العقبى مدة طويلة أو قصيرةو ربما يرتقى سريعا بنور المعرفة أو بقوة الطاعات أو بجذبة ربانية أو بشفاعة الشافعين- و آخر من يشفع هو أرحم الراحمين‏

فصل (2) في نتيجة ما قدمناه و ثمرة ما أصلناه‏

أقول أن من تأمل و تدبر في هذه الأصول و القوانين‏«1»العشرة التي أحكمنا بنيانها و شيدنا أركانها ببراهين ساطعة و حجج قاطعة لامعة مذكورة في كتبنا و صحفنا سيما هذا الكتاب تأملا كافيا و تدبرا وافيا بشرط سلامة فطرته عن آفة الغواية و الاعوجاج- و مرض الحسد و العناد و عادة العصبية و الافتخار و الاستكبار لم يبق له شك و ريب في مسألة المعاد و حشر النفوس و الأجساد و يعلم يقينا و يحكم بأن هذا البدن بعينه سيحشر يوم القيامة بصورة الأجساد و ينكشف له أن المعاد في المعاد مجموع النفس و البدن بعينهما و شخصهما و أن المبعوث في القيامة هذا البدن بعينه لا بدن آخر مباين له عنصريا كان كما ذهب إليه جمع من الإسلاميين أو مثاليا«2»كما ذهب إليه الإشراقيون فهذا هو الاعتقاد الصحيح المطابق للشريعة و الملة الموافق للبرهان و الحكمة فمن صدق و آمن بهذا فقد آمن بيوم الجزاء و قد أصبح مؤمنا حقا و النقصان عن هذا الإيمان خذلان و قصور عن درجة العرفان و قول بتعطل أكثر القوى و الطبائع عن البلوغ إلى غاياتها و الوصول إلى كمالاتها و نتائج أشواقها و حركاتها و يلزم أن يكون ما أودعه الله في غرائز الطبائع الكونية و جبلاتها من طلب الكمال و التوجه إلى ما فوقها هباء و عبثا و باطلا و هدرا- فلكل قوة من القوى النفسانية و غيرها كمال يخصها و لذة و ألم و ملائمة و منافرة تليق بها- و بحسب كل ما كسبته أو فعلته يلزم لها في الطبيعة الجزاء و الوفاء كما قررته‏«1»الحكماء من إثبات الغايات الطبيعية لجميع المبادي و القوى عالية كانت أو سافلةفَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاًو قوله‏وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهاو إليه الإشارة بقوله تعالى‏ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ‏و كل ما في الكون من الجواهر الطبيعية دابة لما بيناه من حركاتها الذاتية فالله آخذ بناصية نفوسها و طبائعها و هو موليها نحوه و جاذبها إليه و من تحقق بهذا تيقن بلزوم عود الكل- و لم يشتبه عليه ذلك و هذا مقتضى الحكمة و الوفاء بالوعد و الوعيد و لزوم المكافاة في الطبيعة و المجازاة و لنا رسالة على حدة في هذا الباب بينا فيها حشر جميع الأشياء الكائنة- حتى الجماد و النبات إلى الدار الآخرة و حشر الكل إليه تعالى ببيانات واضحة و قواعد صحيحة برهانية مبناها على أن لا معطل في الطبيعة و لا ساكن في الخليقة فالكل متوجه نحو الغاية المطلوبة إلا أن‏«2»حشر كل أحد إلى ما يناسبه و يجانسه فللإنسان بحسبه- و للشياطين بحسبهم و للحيوانات بحسبها و للنبات و الجماد بحسبهما كما قال تعالى في حشرأفراد الناس‏يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً وَ نَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى‏ جَهَنَّمَ وِرْداً«1»و في الشياطين‏فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَ الشَّياطِينَ‏و في الحيوانات‏وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ‏«2»وَ الطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ‏و في النبات‏وَ النَّجْمُ وَ الشَّجَرُ يَسْجُدانِ‏و قوله تعالى‏وَ تَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ‏إلى قوله‏وَ أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِو في حق الجميع‏وَ يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَ تَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَ حَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً وَ عُرِضُوا عَلى‏ رَبِّكَ صَفًّاو قوله‏إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَ مَنْ عَلَيْها وَ إِلَيْنا يُرْجَعُونَ‏و قوله تعالى‏كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ‏

فصل (3) في دفع شبه المنكرين و شكوك الجاحدين لحشر الأجساد

إن هذه المقدمات و الأصول المذكورة كما أفادت هذا المطلوب على وجه التحقيق- كذلك هي وافية بدفع تلك الشبهة و الشكوك و لا بأس بذكرها على التفصيل و الإشارة إلى دفعها.                   منها ما سبق من أنه إذا صار إنسان غذاء لإنسان آخرفالأجزاء المأكولة إماأن يعاد في بدن الآكل أو في بدن المأكول و أيا ما كان لا يكون أحدهما بعينه معادا بتمامه و أيضا إذا كان الآكل كافرا و المأكول مؤمنا يلزم إما تعذيب المطيع و تنعيم الكافر أو أن يكون شخص واحد كافرا معذبا و مؤمنا منعما لكونهما جسما واحدا و اندفاعه ظاهر بما مر من أن تشخص‏«1»كل إنسان إنما يكون بنفسه لا ببدنه و إن البدن المعتبر فيه أمر مبهم لا تحصل له إلا بنفسه و ليس له من هذه الحيثية تعين و لا ذات ثابتة و لا يلزم من كون بدن زيد مثلا محشورا أن يكون الجسم الذي منه صار مأكولا لسبع أو إنسان آخر محشورا بل كلما يتعلق به نفسه هو بعينه بدنه الذي كان فالاعتقاد بحشر الأبدان يوم القيامة هو أن يبعث أبدان من القبور إذا رأى أحد كل واحد واحد منها يقول هذا فلان بعينه و هذا بهمان بعينه أو هذا بدن فلان و هذا بدن بهمان على ما مر تحقيقه و لا يلزم من ذلك أن يكون غير مبدل الوجود و الهوية كما لا يلزم أن يكون مشوه الخلق- و الأقطع و الأعمى و الهرم محشورا على ما كان من نقصان الخلقة و تشويه البنية كما و الأحاديث و المتكلمون عن آخرهم أجابوا عن هذه الشبهة بما لا حاجة إلى ذكره لركاكته-

و منها أن جرم الأرض مقدار محصور محدود ممسوح بالفراسخ و الأميال و الذراع- و عدد النفوس غير متناه‏فلا يفي مقدار الأرض و لا يسع لأن تحصل منه الأبدان الغير المتناهية.           و الجواب الحق بما مر من الأصول أن لا عبرة بخصوصية البدن و أن تشخصه و المعتبر في الشخص المحشور جسمية ما أية جسمية كانت و أن البدن الأخروي ينشأ من النفس بحسب صفاتها لا أن النفس يحدث من المادة بحسب هيئاتها و استعداداتها كما في الدنيا.

و لك أن تجيب أن المقادير قد يزداد حجما و عددا من مادة«2»واحدة فإن هيولى‏قوة قابلة محضة لا مقدار لها في نفسها و لا لها اختصاص بحد خاص و عدد معين بل يعرض لها المقادير و الانقسامات من خارج و هي في نفسها قابلة للانقسامات الغير المتناهية و ليس أيضا من شرطها في أن يكون أبدانا أن تكون صورة الأرضية باقية بل يجوز انقلابها من الأرضية إلى أجسام حسب ما شاء الله و أيضا لا يلزم أن يكون كل نفس محشورة بالبدن- فإن من النفوس ما فارقت الأجسام صاعدة إلى عالم القدس منخرطة في سلك المقربين- و الجواب الأول‏«1»هو العمدة.

و منها أن الجنة و النار إذا كانتا موجودتين جسمانيتين فأين مكانهماو في أي جهة من جهات العالم حصولهما فإن كان حصولهما أو حصول إحداهما فوق محدد الجهات- فيلزم أن يكون في اللامكان مكان و في اللاجهة جهة و إن كان في داخل طبقات السماوات و الأرض أو فيما بين طبقة و طبقة فيلزم إما التداخل و إما الانفصال بين سماء و سماء و الكل مستحيل و مع هذا ينافي قوله تعالى‏وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ‏.

هذا تقرير هذه الشبهة و طريق اندفاعها مكشوف لمن تدبر في الأصول التي بيناها.

أما المتكلمون فحيث لم يدخلوا البيوت من أبوابها ليس في وسعهم التفصي عن أمثال هذا الإشكال فأجابوا عنه تارة بتجويز الخلاء و تارة بعدم كون الجنة و النار مخلوقتين بعد و تارة بانفتاق السماوات على قدر يسع بينها الجنة و ليتهم قنعوا بدين العجائز و اكتفوا بالتقليد و لم يستنكفوا أن يقولوا لا ندري الله و رسوله أعلم.

ثم العجب أن أكثر ما رأينا منهم يخوضون في المعقولات و هم لا يعرفون المحسوسات- و يتكلمون في الإلهيات و هم يجهلون الطبيعيات و يتعاطون الحجج و القياسات و لا يحسنون المنطق و الرياضيات و لا يعرفون من العلوم الدينية إلا مسائل خلافيات و ليس غرضهم في العلم إصلاح النفس و تهذيب الباطن و تطهير القلب عن أدناس الصفات و الملكات‏ بل طلب الرئاسة و الجاه و إرجاع الخلائق إلى فتاواهم و حكوماتهم و لأجل ذلك يضمرون النفاق و يعادون أهل الحكمة و المعرفة و من أعظم الفتن و المصائب أنهم مع هذه العقول الناقصة و الآراء السخيفة يخاصمون و يعادون الحكماء و العرفاء أكثر من الخصومة و العداوة- مع الكفار و اليهود و النصارى و يعدون هذا من تقوية الدين و حفظ عقائد المسلمين و غاية تقويتهم للدين أن يقولوا إن الحكمة ضلال و إضلال و إن تعلمها بدعة و وبال و إن علم النجوم باطل في أصله و إن الكواكب جمادات و إن الأفلاك لا حياة لها و لا نطق و إن الطلب لا منفعة له و إن الهندسة لا حقيقة لها و إن علوم الطبيعات أكثرها كفر و زندقة و أهلها ملاحدة و كفرة إلى غير ذلك من مقالاتهم و هوساتهم المشحونة بالتدليس و التلبيس لمخالفة أكثرها لما في كتاب الله و سنة نبيه من تعظيم الحكمة و توقير أهلها و تعظيم النجوم و السماء و الأقسام في كثير من الآيات بها و مدح الناظرين المتفكرين في خلقها و ذم المعرضين عن آياتها لقوله تعالى-يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ‏الآية و قوله‏وَ كَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَ هُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ‏فإذا جاءوا إلى دفع مثل هذه المشكلات عن الدين وقعوا في العجز كالحمار في الوحل و الطين و لنرجع إلى ما فارقناه‏

كشف مقال لدفع إشكال:

أن أعضل شبه الجاحدين للمعاد الجسماني و أعظم إشكالات المنكرين للجنة و النار المحكوم بثبوتهما و تحققهما في الشريعة الحقة التي أتى بها أهل النبوة و الحكمة المؤسسة على الأصول و المباني المحكمة المهمة هو طلب المكان لهما و التزام كونهما في جهة من الجهات- الامتدادية الوضعية و في زمان من الأزمنة المتصرمة و استيجاب كونهما داخل حجب السماوات و تحت حيطة محدد الجهات و عرش المتماديات.

فالجواب كما يستعلم من الأصول المؤسسة عن أصل هذه الشبهة و قلع مادتها- و فسخ صورتها هو أن يقال على منهج أبحاث المتألهين و طريقة إنظار السالكين إلى الله- بأقدام المعرفة و اليقين إن حجتكم هذه مبنية على أن للجنة و النار مكانا من جنس أمكنة هذه الدنيا لكن أصل إثبات المكان على هذا الوجه للجنة و النار باطل فالشبهة منهدمة الأساس منحسمة الأصل و مما يوضح ذلك حسب ما مضت الإشارة إليه أن عالم‏الآخرة«1»عالم تام لا يخرج عنه شي‏ء من جوهرة و ما هذا شأنه لا يكون في مكان كما ليس لمجموع هذا العالم أيضا مكان يمكن أن يقع إليه إشارة وضعية من خارجة أو داخلة لأن مكان الشي‏ء إنما يتقرر بحسب نسبته و إضافته إلى ما هو مباين له في وضعه خارج عنه في إضافته و ليس في خارج هذه الدار شي‏ء من جنسه و إلا لم يوجد بتمامه و لا في داخله أيضا ما يكون مفصولا عن جميعه إذا أخذ من هذه الحيثية فلا إشارة حسية إلى هذا العالم عند أخذه تاما كاملا لا من داخله و لا من خارجه فلا يكون له أين و وضع- و لهذا المعنى حكم معلم الفلاسفة بأن العالم بتمامه لا مكان له فقد اتضح أن ما يكون عالما تاما فطلب المكان له باطل و المغالطة نشأت من قياس الجزء على الكل و الاشتباه بين الناقص و الكامل ثم على سبيل التنزل عن هذا لو سأل سائل هل الدار الآخرة مع هذه الدار منتظمتان في سلك واحد و المجموع عالم واحد فحينئذ يكون طلب المكان لهما صحيحا أو كل منهما عالم بتمامه مباين الجوهر و الذات للآخر غير منسلك معهافي سلك واحد لا يجمعهما دار واحدة فحينئذ طلب المكان لهما غير صحيح و أنت تعلم أن الحق هو الثاني إلا أن يراد بكونهما واحدا ضربا آخر من الوحدة فإن العوالم و النشئات متداخلة في المعنى و القوام لا في الوضع و الامتداد مع كون كل منهما عالم تام أ و لا ترى أن أهل العالم متفقون على قولهم هذا العالم و ذلك العالم حسبما ورثوه من أسلافهم و مقدميهم و لو كان المجموع عالما واحدا كان هذا القول باطلا و لا يصح أن يقال هذا الإطلاق من قبيل قولهم عالم العناصر و عالم الأفلاك و عالم الحيوان لأن هذه أقوال مجازية على سبيل التشبيه فإن الدنيا و الآخرة لو لم يكونا عالمين تامين- فلا يكون في الوجود عالم تام لأن المجموع ليس منتظما في سلك واحد إلا بأن يكون أحدهما باطن الآخر و الآخر ظاهره كما أشرنا إليه و هذا كلام آخر فيه غموض فإذا لم يكونا مع مباينة كل منهما للآخر في الوجود مما يشملهما عالم آخر فلا محالة كل منهما عالم تام كما أطلق القول عليه في ألسنة الشريعة إن لله سبحانه عالمين الدنيا و الآخرة و مما يوضح أيضا القول بأن الآخرة ليست من جنس هذا العالم إن الآخرة نشأة باقية يتكلم‏«1»الإنسان فيها مع الله و هذه نشأة داثرة بائدة أهلها هالكة الذوات و لا ينظر إليهم و اختلاف اللوازم يدل على اختلاف الملزومات و أما مكالمة الأنبياء مع الله تعالى و مخاطبة سيد الرسل ص معه تعالى ليلة المعراج فهي من ظهور سلطان الآخرة على قلوبهم و مما يدل على ذلك قوله تعالى‏وَ نُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ‏فإنه صريح في أن نشأة الآخرة غير نشأة الدنيا و بالجملة فنحو وجود الآخرة غير نحو وجود الدنيا و لو كانت الآخرة من جوهر الدنيا لم يصح أن يقال إن الدنيا يخرب و الآخرة دار القرار لأن الدنيا إنما هي دنيا بالجوهر و الوجود لا بالعوارض الشخصية و المخصصات الخارجية و إلا لكان كل سنة بل كل يوم دنيا أخرى لتبدل الأشكال و الهيئات و التشخصات و لكان القول بالآخرة تناسخا و لكان المعاد عبارة عن عمارة الدنيا بعد خرابها و إجماع العقلاء على أن الدنيا تضمحل و تفنى ثم لا تعود و لا تعمر أبدا فقد ثبت و تحقق أن الدنيا و الآخرة مختلفتان‏في الجوهر الوجود غير منسلكين في سلك واحد فلا وجه لطلب المكان للآخرة و صاحب الذوق السليم يتفطن بهذا على أن من نظر إلى مواضع هذا الكتاب لا يحتاج إلى زيادة مئونة و تفتيش و إنما بسطنا القول في زيادة الكشف و التوضيح شفقة على الظاهريين الذين قصدهم في النسك و العبادات طلب قضاء شهوة البطن و الفرج في الآخرة على وجه ألذ و أدوم فهم في الحقيقة طلاب الدنيا و عند أنفسهم أنهم يطلبون ثواب الآخرة و التقرب إلى الله تعالى.

و منها لزوم مفسدة التناسخ كما مر ذكره‏و هذا أيضا شبهة قوية عسرة الانحلال- صعب الزوال على غير من اطلع على طريقتنا و سلك مسلكنا.                                    و الجواب الذي ذكروه و قرروه في غاية الضعف و القصور و ما تيسر إلى الآن لأحد من الإسلاميين في حل هذا الإشكال شي‏ء يمكن التعويل عليه حتى أن بعضهم ارتكب القول بتجويز التناسخ مع أن استحالته مبرهن عليها و غاية ما تفصوا به عن إشكال التناسخ ما ذكره بعض الأعلام في رسالة لفقها في تحقيق المعاد إن للنفس الإنسانية ضربين من التعلق بهذا البدن أولهما أولى و هو تعلقها بالروح البخاري- و ثانيهما ثانوي و هو تعلقها بالأعضاء الكثيفة فإذا انحرف مزاج الروح و كاد أن يخرج عن صلاحية التعلق اشتد التعلق الثانوي من جانب النفس بالأعضاء و بهذا يتعين الأجزاء تعينا ما ثم عند المحشر إذا جمعت و تمت صورة البدن ثانيا و حصل الروح البخاري مرة أخرى عاد تعلق الروح كالمرة الأولى فذلك التعلق الثانوي يمنع من حدوث نفس أخرى على مزاج الأجزاء فالمعاد هي النفس الباقية لنيل الجزاء انتهى قوله.

و قد سبقت الإشارات إلى بطلانه من أن تعلق النفس بالبدن أمر طبيعي منشؤه المناسبة التامة و الاستعداد الكامل للمادة المخصص لها بهذه النفس دون غيرها و لا بد أن يكون هذا التخصص و الاستعداد مما لم يوجد إلا لهذه المادة الواحدة بالقياس إلى النفس المعينة الواحدة لئلا يلزم التخصص بلا مخصص أو تعلق نفس واحد ببدنين على أنك قد علمت أن منشأ حدوث النفس و ما يجري مجراها هو الحركة الذاتية«1»الاستكماليةلمادة ما في الصور الجوهرية على سبيل الترقي من الأدنى إلى الأعلى حتى يقع انتهاء الأكوان الصورية إلى النفس و ما بعدها فعلى هذا لا معنى لبقاء المناسبة الذاتية للأجزاء الترابية إليها و مع قطع النظر عما ذكرناه و أصلناه نقول كل من ذاق المشرب الحكمي- يعلم أن الجسم الذي يتعلق به النفس سيما الناطقة التي هي أخيرة مراتب الشرف و الكمال- للأجسام الطبيعية في سلسلة العود إلى العقل الفعال يجب أن يكون مختصا بمزيد استعداد- و تهيؤ مزاج و حرارة غريزية لروح‏«1»بخاري شبيه بالجرم السماوي و أن التعلقات الطبيعية و الذاتية ليست كالتعلقات الإرادية الواقعة من الإنسان لأجل مصلحة خارجية أو داعية جزافية أو عادية ترغبه و تدعوه إلى التوجه و الالتفات نحو شي‏ء كمن توجه إلى خرابة عاش فيها مدة كانت معمورة ثم هاجر منها لأجل سبب من الأسباب فيلتفت إليها مرة أخرى بعد خرابها- و يريد تعميرها طلبا لما يتذكره من التلذذات و التنعمات التي وقعت منه فيها على سبيل المجازفة الشهوية من غير فائدة فكرية و غاية عقلية أو لملاحظة مصلحة رآها أو فائدة و حكمة راعاها فإن شيئا من هذه الأمور لا يجري في الأسباب الذاتية للغايات الطبيعية ثم إن قولهم إن النفس تتعلق أولا بالأرواح اللطيفة و ثانيا بالأعضاء الكثيفة معناه أن تعلقها بالذات ليس إلا بالأرواح لأنها القريبة الشبه إلى جوهر النفوس دون الأعضاء لكثافتها و ظلمتها و بعد مناسبتها إلى الجواهر النورانية إلا بالعرض لأجل كونها كالقشر و الغلاف و الوعاء الصائن للجرم الشبيه بالفلك اللائق لأجل اعتداله و لطافته لأن يستوكره الحمام القدسي و الطائر الملكوتي فإذا تمزقت هذه الشبكة و استحالت ترابا و رمادا و طار طائرها السماوي و خلص من هذا المضيق فأي تعلق بقي له بالأجزاء المتفرقة و الذرات‏المثبوتة و أي تعلق للنفس بالتراب و الرماد و إن فرض مجتمع الأجزاء و لو كان كذلك لكان كل تراب و رماد ذا نفس لاشتراك الجميع في الترابية و الرمادية و الإضافة إلى الزمان السابق الذي كان فيه التعلق غير باقية أيضا لأن الزمان غير باق‏

تنبيه تفضيحي:                                                                                                                                                                                               إن الشيخ الغزالي قد صرح في كثير من مواضع كتبه أن المعاد الجسماني هو أن يتعلق المفارق عن البدن ببدن آخر و استبعد بل استنكر عود أجزاء البدن الأول و قال إن زيدا الشيخ هو بعينه زيد الذي كان شابا و هو بعينه الذي كان طفلا صغيرا و جنينا في بطن الأم مع عدم بقاء الأجزاء ففي الحشر«1»أيضا كذلك و الملتزمون بعود الأجزاء مقلدون من غير دراية.                                                                                                                                                                                       أقول هذا الكلام في غاية الإجمال و لم يظهر منه الفرق بين التناسخ و الحشر و قد بينا أن الحق في المعاد عود البدن بعينه كالنفس بعينها كما يدل عليه الشرع الصحيح- الصريح من غير تأويل و يحكم عليه العقل الصحيح من غير تعطيل.                                                                                                                             

ثم قال و ليس هذا بتناسخ فإن المعاد هو الشخص الأول و المتناسخ‏«2»هو شخص آخر و الفرق بين الحشر و التناسخ أن الروح إذا صار مرة أخرى متعلقا ببدن آخر- فإن حصل من هذا التعلق الشخص الأول كان حشرا واقعا لا تناسخا.                                                                                                                                

أقول تقريره للمعاد الجسماني بأنه عود للشخص مع عدم عود البدن و تصريحه بأن الشخص إنما هو مجموع الروح و البدن ظاهره‏«3»متناقض مشكل و أشكل منه ما قرره في الفرق بين التناسخ و الحشر أن الشخص الثاني في الأول غير الأول و في الثاني‏عينه إذ في هذا«1»الفرق تحكم لا يخفى.                                                                                                                                                                                                                                

و أعجب من هذه‏«2»كلها أنه قال في موضع آخر بهذه العبارة إن الروح يعاد إلى بدن آخر غير الأول و لا يشارك له في شي‏ء من الأجزاء.

ثم قال فإن قيل هذا هو التناسخ قلنا سلمنا و لا مشاحة في الأسماء و الشرع جوز هذا التناسخ و منع‏«3»غيره.                                                                          

أقول هذا الكلام مما تلقاه كثير من فضلاء الزمان بالقبول و لعلهم زعموا أن الإشكال المذكور في الحشر هو لزوم التناسخ بحسب المفهوم و إطلاق اللفظ أو توهموا أن محالية التناسخ من جهة الشرع إنما الإشكال لزوم مفسدة التناسخ بحسب العقل و هو اجتماع نفسين على بدن واحد سواء سمي تناسخا أو حشرا.                                                                 

و قال في موضع آخر اعلم أن هذا يستنكره من يبطل حشر الأجساد و يحيل رد النفوس إلى الجسد و ليس يقوم على استحالته برهان يقيني و كلما ذكره الأوائل في الدلالة على استحالته ليس ببرهان محقق و الشرع قد ورد به فيجب تصديقه.                                                                                                                   

و الدليل على أن‏«4»ذلك ليس مبرهنا أن أفضل متأخري الفلاسفة أبا علي ابن سينا قد أثبت ذلك في كتاب النجاة و الشفاء قال لا يبعد أن يكون بعض الأجسام السماوية- موضوعا لتخيل النفس بعد الموت و حكى ذلك عمن عظمت رتبته إذ قال و قد قال من لا يجازف في الكلام من العلماء إن ذلك غير ممتنع و هذه‏«5»القضية تدل على أنه شاك‏في هذا الأصل و لم يقم عنده برهان عليه و لو كان محالا عنده لما وصف قائله بأنه لا يجازف في الكلام بل أي مجازفة تزيد على القول بالمحال.

و ربما يقول قائل إن ذلك إنما ذكره على سبيل المجاملة و التقية و إلا فقد ذكر في مسألة التناسخ من كتاب النفس استحالة تناسخ الأبدان لنفس واحدة و ذلك بعينه دليل إبطال الحشر للأجساد.                                                                                                                                                                                          فنقول ما ذكره في استحالة التناسخ أيضا ليس ببرهان محقق فإنه قال لو عادت النفس جسدا و استعد للقبول لفاضت إليه نفس من واهب الصور فإن المستعد يستحق بذاته قبول الصورة فيؤدي إلى أن يفيض إليه نفس و يتعلق به النفس المستنسخة فيجتمع نفسان لبدن واحد و هو محال هذا ما ذكره و يمكن أن يستعمل في إعادة حشر الأجساد- لكنه دليل ضعيف إذ يقال يجوز أن يختلف الاستعدادات فيكون للمادة من الاستعدادات ما يناسب المفارقة الموجودة من قبل حتى يختص بتدبيرها و لا يحتاج إلى إفاضة نفس جديدة فإنه لو استعدت في الأرحام نطفتان لقبول النفس في حالة واحدة- فاضت إليهما نفسان من واهب الصور و اختص كل واحد منهما بنفس و ليس اختصاصه بالحلول‏«1»فيه فإن النفس لا تحل في الجسد حلول الأعراض لكن اختصاص النفس بأحد الجسمين لمناسبة بينهما في الأوصاف في أحد المستعدين اختصاص إحدى النفسين دون الأخرى فإذا جاز هذا التخصيص في النفسين المتماثلتين فلم لا يجوز في النفوس المفارقة- فإذا توفر على المستعد حقه من النفوس المفارقة المناسبة«2»له لم لا يفيض إليه نفس جديدة من واهب الصور و لتقرير هذا الكلام عرض لست أخوض فيه و إنما المقصود بيان أن من أنكر حشر الأجساد لا برهان معه انتهت عبارته.

أقول بطلان التناسخ مبرهن عليه كما مر بيانه و أما ما جوزه الشيخ و نقله ممن يعتقد أنه من العلماء الذين لا يجازفون فليس إلا كون بعض الأجرام السماوية موضوعا«1»لتخيل النفس و صرح بأن هذا التعلق ليس بأن يصير ذلك الجوهر النفساني المفارق عن البدن نفسا لذلك الجرم و إلا لزم كون ذلك الجرم الفلكي ذا نفسين و هذا أمر محال في نفسه و عند التناسخية«2»أيضا فإن القائلين بالتناسخ فكيف جوز مثل الشيخ أمرا لم يجوزه أحد من العقلاء و أما الذي قررناه و ألزمناه عليه فذلك حديث آخر و هو مسلك عميق دقيق و منهج يمكن الذهول عنه لأكثر العقلاء.                                                                                                                                     و أما ما تفصى به عن محالية التناسخ من اختلاف الاستعدادات فلا فائدة فيه في دفع المفسدة بل يؤكد لزومها«3»كما يظهر عند التأمل فإن الواقف بالقوانين العقلية يعلم‏ أن المادة لا تتهيأ و لا تستعد لفيضان صورة إلا عند تلبسه بصورة سابقة مقومة لها هي المعدة لللاحقة و تلك الصورة السابقة أقرب الأشياء إلى الصورة اللاحقة فالمادة المستعدة للنفس لا تستعدها إلا بعد استيفائها جميع المراتب الصورية التي تحتها بالقابلية و الاستعداد و هذا شي‏ء مطابق للبرهان معتضد بالتجربة و الوجدان فعلى هذا كان تحقيق البعث و الحشر للأبدان أصعب و أشكل فباب الوصول إلى معرفة المعاد الجسماني مسدود إلا على من سلك منهجنا و ذهب في طريقتنا و هو طريق أهل الله و الراسخين في العلم و الإيمان الجامعين بين الكشف و البرهان المقتبسين نور الحكمة من مشكاة النبوة و الله ذو الفضل العظيم‏

و منها أن الإعادة لا لغرض عبث و جزاف لا يليق بالحكيم‏و الغرض إن كان عائدا إليه كان نقصا له فيجب تنزيهه عنه و إن كان عائدا إلى العبد لزم العجز و خلاف الحكمة و العدالة فإن ذلك الغرض إن كان إيصال ألم فهو غير لائق بالحكيم العادل فكيف عن خالق الحكمة و العدل و إن كان إيصال لذة فاللذات سيما الحسيات دفع آلام فإن أكل الطعام و إن كان حسنا لذيذا لا يلتذ به من كان ممتلئا شبعا و إنما يستلذه الجائع و كذا سائر اللذات الحسية فإن‏«1»العلماء و الأطباء بينوا و قرروا- أنها دفع الآلام فلزم أنه تعالى يؤلم العبد أولا حتى يوصل إليه لذة حسية و ذلك أيضا لا يليق بالحكيم العادل و كيف يليق به أن يؤلم أولا أحدا ليدفع عنه هذا و من ذا الذي يريد إحسانا بأحد فيقطع بعض أعضائه و يجرحه ثم يضع عليه المراهم ليلتذ بهاو الأشاعرة أجابوا عن هذا بمنعهم لزوم الغرض في أفعال الله و قبح الخلو عنه- ثم بمنع كون الغرض منحصرا في إيصال اللذة و الألم ثم بمنع كون اللذة دفعا للألم- ثم بمنع كون اللذات الأخروية كالدنيوية حتى يستلزم كونها أيضا دفع آلام كهذه.

و أجابت المعتزلة عنه بأن الغرض‏«1»في المعاد نيل الجزاء و ظهور صدق الأنبياء- أقول قد عرفت الفرق بين الغرض و الضروري و أن للأفعال غايات طبيعية و لوازم ضرورية و أن الموت هو الانتقال من هذه النشأة إلى نشأة أخرى فوقها و أن اللذات الأخروية و مقابلها من الآلام هي مما كسبته أو اكتسبته أيدي النفوس إرادة أو عادة- فلحقته اللوازم و التبعات و الله تعالى منزه عن حسن طاعة المطيعين و قبح سيئة المسيئين- و ليس فعل الله في عباده من إثابة أهل الثواب و عقوبة أهل العقاب يضاهي أفعال الملوك و السلاطين لأنهم ذوي أغراض و حاجات فينفعلون من أفعال أصدقائهم و أعدائهم- فيكرمون صديقهم طلبا للكرامة و تخلصا من الدناءة و ينتقمون من عدوهم تشفيا من الغيظ و إنما يضاهي فعله تعالى فعل الطبيب في المرضى أمر بالاحتماء و تناول الدواء- و نهى عن ترك الاحتماء و فعل ما يزيد في الداء فمن أطاع أمره خلص و نجا و من تمرد هلك و هوى و هو فارغ من إطاعة المريض و تعصيه فكذلك النفوس في هذا العالم بمنزلة المرضى و الأرض دار المرض و الأنبياء هم الأطباء المبعوثون من قبل الله- فمنهم من أطاع و منهم من عصى و الله بري‏ء من المشركين و رسوله‏وَ قُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْثم نقول لذات الآخرة و آلامها ليست من مقولة لذات الدنيا و آلامها حتى يكون لذاتها دفع الآلام كما في الدنيا فإن هذه اللذات الدنيوية كلها انفعالات للنفس بما يرد عليها من الخارج و يؤثر فيها بخلاف اللذات الأخروية فإنها ابتهاجات للنفس‏«2»بذاتها و بلوازمها و أفعالها من حيث‏إنها أفعالها و لما كان الفعل و الانفعال مقولتان مختلفتان لا اشتراك لهما في أمر ذاتي- فكذا اللذة الفعلية غير اللذة الانفعالية في الجنس و الحد فلا مجانسة بينهما فلا يقاس إحداهما بالأخرى ففي الجنة جميع الملاذ النفسانية على وجه الكمال فللمشاعر الحسية كلها لذات على وجه أعلى و أتم و أشرف مبناها على ترك هذه اللذات الفانية- التي إذا أمعن فيها ينقلب هناك بعينها آلام و مؤذيات فينبغي للإنسان أن يلطف نفسه و يصفي جوهرة و يزهد في الدنيا و يحصل هاهنا قوة إدراك الخيرات و الشوق إلى نيل السعادات الباقيات حتى إذا خرج من القوة إلى الفعل و انتقل من النقص إلى الكمال- و برز من الأغشية و القشور و الأجداث و القبور و يحصل له ما في الصدور و كان جميع ما يتمناه و يهواه حاضرا لديه و متمثلا بين يديه بل ليس في القيامة للنفوس إلا ما قصدته و نوته فإن كان مقصودها و مناها أمورا صحيحة حقة فازت بها فوزا عظيما- و إن كانت أمورا زائلة مستحيلة من باب المقاصد الدنيوية و المطالب الشهوية و الغضبية و العقائد الوهمية الشيطانية فأتتها فانفسخت صورتها و اضمحلت مادتها و بقيت الحسرة و الندامة و الغصة و العذاب الأليم لأجل الركون إليها و الاعتياد بها و أنت تعلم أن الدنيا«1»و ما فيها مضمحلة في جنبة الآخرة اضمحلال الجمد و ذوبان الثلج عند طلوع‏الشمس و سلطان نورها و شدة حرارتها و حال أهل الدنيا و استيناسها بالشهوات الدنيوية بعينها كحال الخفافيش و استيناسها بظلمات الليل فإذا طلعت شمس الآخرة عند صباح القيامة- بعد غروبها في أفق الأجسام الكائنة في ليل الدنيا يلحقهم من التوحش و الاضطراب مثال ما يلحق الخفافيش و الغرض من هذا التمثيل زيادة الوضوح و الانكشاف أو تفهيم العقول الضعيفة القاصرة عن درك حقائق الأكوان و النشئات و إلا فالدعوى ثابتة بالبرهان غير محتاج إلى التمثيل و كذلك جميع الأمثال الواردة«1»في القرآن و لسان النبوة الغرض فيها تنبيه النفوس العامية عن أحوال الآخرة كما قال تعالى‏وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَ ما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ‏و لعل الغرض للحكماء الكاملين من وضع باب التمثيل في كتبهم المنطقية- أنما كان لضعفاء العقول الذين لا يمكنهم إدراك روح المعنى و حقيقته إلا في قالب محسوس محاك لها فإن كلا من أشخاص الحقيقة الإنسانية مثال محسوس مطابق لها و كذلك جميع المحسوسات الطبيعية مثل و أشباح لأنواعها العقلية و كذلك الدنيا و ما فيها مثال الآخرة و ما فيها فإن العوالم متطابقة متحاذية و من أراد تعريف نشأة أخرى- لمن لم يصر بعد من أهلها و لم يتجاوز عن نشأته التي تكون فيها فلا يمكن ذلك إلا بوجه التمثيل و لأجل ذلك بناء الشرائع الحقة لكونها نازلة لعامة الناس على باب التمثيلات.

ردع و تفريع:                                                                                                                                                                                                إن من الفلاسفة الإسلاميين من فتح على قلبه باب التأويل فكان يأول الآيات الصريحة في حشر الأجسام و يصرف الأحكام الأخروية على الجسمانيات إلى الروحانيات قائلا أن الخطاب للعامة و أجلاف العرب‏و العبرانيين و هم لا يعرفون الروحانيات و اللسان العربي مشحون بالمجازات و الاستعارات- و العجب منه كيف غفل كجمهور الفلاسفة عن وجود عالم آخر جسماني فيه أجسام و إشكال أخروية مع أعراضها كما قررناه ثم كيف حمل الآيات القرآنية الناصة الصريحة- في أحوال المعاد الجسماني على الأمور العقلية مع تصديقه للرسول و إيمانه بما في القرآن.و فيه مبالغات و تأكيدات لما ذكرناه                                                                                                              أقول منشأ ذلك أنه عجز عن إثبات هذا المقصد بالدليل العقلي و كذا عن إمكانه لغاية غموضه كما يظهر لمن تدبر فيما قررناه فاضطر إلى التأويل كما وقع لغيره- من علماء الإسلام في كثير من الآيات الواردة في أحوال المبدإ الظاهرة في التشبيه و التجسيم فما فعله لا يوجب التكفير«1»كما لا يوجب فيما فعله غيره.

و أما ما أورده عليه بعض المتأخرين من أن الأمر في باب المعاد و لو كان كما زعمه يلزم أن يكون هادي الخلائق و الداعي لهم إلى الحق مضلا لهم و مقررا لأكاذيب- فإن الأجلاف و العبرانيين كما قال لا يفهمون من هذه الألفاظ إلا الظواهر التي زعم أنها غير مقصودة و هذا كما ترى مخالف للهداية فالاعتقاد به مناف لدعوى الإيمان- بصدق الرسول و حقية القرآن.                                                                                                                                                                                   فأقول فيه نظر من وجهين الأول أن القرآن يشتمل على المنافع‏«2»الدنيوية و الأخروية متاعا لكم و لأنعامكم و لا يلزم أن يعود منفعته الأخروية إلى أهل الجلافة و القسوة بل المنافع الأخروية يختص بنيلها أهل الصفوة و انشراح الصدر و هؤلاء الحمقى بمعزل عن الهداية و الضلال جميعا كما قال تعالى‏وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ‏الآية.

و الثاني أن هذه الظواهر المذكورة في القرآن لو لم يكن أمثالا و حكايات فيهاتصوير الحقائق و تمثيل الأمور الأخروية لكان الأمر كما ذكره لكن المقصود منها تمثيل الحقائق و تصوير النشأة الباقية فلا يلزم ما ذكره و إلا فجميع باب التمثيل- يلزم أن يكون إضلالا.                                                                                                      و منها ما تشبث به أكثر الطبيعيين و الدهريين‏المتشبهين بالفلاسفة أن حدوث الإنسان و غيره من المركبات العنصرية لا يكون إلا من الأسباب السماوية و القوابل الأرضية و بإعداد حركات فلكية و استحالات مادية و انقلابات زمانية تحتاج إلى مضي أزمنة و دهور كثيرة- لأن هذا مبلغهم من العلم حيث لم يرتفع نظرهم من هذه النشأة الطبيعية إلى نشأة أخرى يحصل الأشياء الصورية فيها بمجرد الأسباب الفاعلية لا جرم أنكروا طريق الوجود و الإيجاد إلا على نهج التحريك و الإعداد للاستعداد و لو يعلموا الفرق أيضا بين الوجودين اللذين للإنسان فقاسوا الفطرة الثانية بالفطرة الأولى في جميع الأحكام و قد نبه الله تعالى في كثير من الآيات القرآنية على أن إنشاء الآخرة و إيجاد الأمور الأخروية على وجه الإعادة كإيجاد هذا العالم في الابتداء بمحض إفاضة الله تعالى كقوله‏كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ‏فكما أن وجود الأفلاك و الكواكب و الأركان ليس بحركة و زمان و استعداد و إعداد- لأسباب قابلية بل بعناية ربانية فكذلك حكم النشأة الأخروية لأن الموجودات هناك صورة مستقلة الوجود بلا مادة فليس لها من الأسباب إلا واهب الصور و الصور هناك قائمة بالفاعل لا بالقابل كما مر مرارا.

و منها أن الحشر و بعث الأبدان إما أن يقع لبعضها أو لجميعهافالأول ترجيح من غير مرجح لأن استحقاق الثواب و العقاب مشترك بين الناس أجمعين فلا وجه لبعث البعض دون البعض و الثاني يوجب التزاحم المكاني لأجساد الناس و حسابهم و كتابهم- و إليه الإشارة بقوله تعالى‏أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَ وَ آباؤُنَا الْأَوَّلُونَ‏فأزال الله تعالى هذا الاستبعاد و الاستنكار بقوله تعليما لنبيه ص‏قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَ الْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى‏ مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ‏فنبه تعالى‏«1»عباده بأن لا تزاحم بين الأجساد في نحو الوجود الأخروي لماذكرناه أن الصور هناك غير قائمة بالمواد الوضعية المقيدة بالجهات المكانية و أنها ناشئة من تصورات نفسانية كما لا تزاحم في الصور الموجودة في أذهاننا هاهنا لأن لها نحوا آخر من الكون و كذا ميقات الآخرة و ساعة القيامة يوم معلوم عند الله و خواص عباده- لا يصل إلى إدراكه أفهام المحجوبين عن النشأة الآخرة المقيدين بأمكنة الدنيا و أزمنتها- و ليس يصلح لإدراك أمور الآخرة هذه المشاعر و الحواس فإن أمور القيامة كلها أسرار- غائبة عن هذا العالم البشري فلا يتصور أن يحيط بها إنسان ما دام في الدنيا و لم يتخلص عن أسر الحواس و تغليظ الوهم و لذلك أكثر شبه المنكرين للبعث مبناها على قياس الآخرة بالأولى و قول المنكرين‏مَتى‏ هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ*سؤال عما يستحيل الجواب عنه عن [على خ‏] موجبه فإن أمر الساعة إذا كان خارجا عن سلسلة الزمان و كان على شبه الإبداع كلمح البصر أو هو أقرب و كان متى سؤالا عن الزمان المخصوص استحال جواب السائل عنه إلا بشي‏ء مجمل و هو أن علمه عند الله كقول الأكمه إذا وصفنا له المبصرات المتلونة فقال كيف يدرك هذه الألوان فالجواب الحق من ذلك أن يقال له العلم بها عند البصر فالجواب الحق من الكفار و أصحاب الحجاب عن سؤالهم عن وقت قيام الساعة أن يقال لهم الجواب الإلهي قل علمها عند الله و عنده علم الساعة فمن تجرد عن غشاوة الدنيا و رجع إلى الله‏«1»و حشر عنده‏فلا بد أن يعرف حقيقة الساعة بالضرورة و لذلك قال أعلم الخلق لا تقوم الساعة و في وجه الأرض من يقول الله الله فإن من كان بعد«1»على وجه الأرض لم يحشر بعد إلى الله- لأن القيامة من داخل حجب السماوات و الأرض و منزلتها من هذا العالم منزلة الجنين من بطن الأم فالنفس الإنسانية ما دام لم تولد ولادة ثانية و لم تخرج عن بطن الدنيا- و مشيمة البدن لم تصل إلى فضاء الآخرة و ملكوت السماوات و الأرض‏كما قال المسيح ع: لن يلج ملكوت السماوات من لم يولد مرتين‏و هذه الولادة الثانية حاصلة للعرفاء الكاملين بالموت الإرادي و لغيرهم بالموت الطبيعي فما دام السالك خارج حجب السماوات و الأرض فلا تقوم له القيامة لأنها داخل هذه الحجب و إنما الله داخل الحجب و الله عنده غيب السماوات و الأرض و عنده علم الساعة فإذا قطع السالك في سلوكه هذه الحجب- و تبحبح حضرة«2»العندية صار سر القيامة عنده علانية و علمه عينا

فصل (4) في القبر الحقيقي‏«3»و أنه روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران‏

قد علمت أن الموت حق و أن الطبيعي منه نهاية الرجوع عن الدنيا و ابتداء الرجوع إلى الله فاعلم أن الروح إذا فارقت البدن الطبيعي مع بقاء تعلق ما لهابالبدن لا بأجزاء مادية كما زعمه جمع من المتأخرين لما مر بطلانه غير مرة بل بجملة بدنه من حيث صورته و هيئة هيكله الباقية في ذكره فإن النفس إذا فارقت البدن و حملت القوة«1»الوهمية المدركة للمعاني الجزئية بذاتها و للصور الجسمانية باستخدام الخيال و قد علمت من طريقنا استقلال القوة الخيالية في الوجود و أنها باقية بعد البدن- و إنما حاجتها إلى هذا البدن الكائن المادي في الابتداء لا في البقاء فهي عند المفارقة مدركة للجزئيات و الماديات بصورهما كما كانت مدركة في الدنيا فإذا مات الإنسان فيتخيل ذاتها مفارقة عن الدنيا و يتوهم عين الإنسان الميت و المقبور الذي مات على صورته و تجد بدنها في القبر و تدرك الآلام الواصلة إليه على سبيل العقوبات الحسية على ما وردت به الشرائع الحقة فهذا عذاب القبر و إن كانت سعيدة تخيلت الموائد الشرعية على صورة ملاءمة على وفق ما كانت تعتقده من الجنات و الأنهار و الحدائق و الولدان و الحور العين- و الكأس من المعين فهذا ثواب القبركما قال ص: القبر إما روضة من رياض الجنة- أو حفرة من حفر النيران‏فالقبر الحقيقي هذه‏«2»الهيئات و عذاب القبر و ثوابه ما ذكرناه- و البعث عبارة عن خروج النفس عن غبار هذه الهيئات كما يخرج الجنين من القرار المكين- و الفرق بين حالة القبر و حالة البعث كالفرق بين حالتي الإنسان في الرحم و عند الخروج منه فإن حالة القبر أنموذج من أحوال القيامة فإن الإنسان لكونه‏«3»قريب العهدمن الدنيا لم يستحكم في نفسه قوة انكشاف الآخرة على وجه الكمال كما لم يستحكم في الجنين قوة الإحساس بالمحسوسات فما دامت النفس حالها على هذا المنوال من الضعف و إدراكه كإدراك النائم يقال إنها في عالم القبر و البرزخ و إذا اشتدت قوتها قامت قيامتها و الذي يوضح لك كيفية ضغطة القبر و إن كان جسد الميت ساكنا أو كان في الهواء- أو الماء أن من كان في ضيق شديد أو تفرق اتصال بالنار و غيرها أو وقع بين حجرين عظيمين- فإن الذي يؤلمه و يؤثر في نفسه بالذات ليس هذه الأمور الواقعة على بدنه بل صورتها الواصلة إلى نفسه لعلاقة لها مع البدن حتى أنه لو فرض حصول تلك الصور إلى النفس- من سبيل آخر لا من جهة هذه الأسباب المادية لكان التأثير بحالها ما دامت النفس ذات علاقة بهذا البدن سواء كان البدن بعينه باقيا أم لا فضغطة القبروعذابه من هذا القبيل الذي ذكرناه و كذلك ثوابه و راحته فسعة القبر و ضيقه تابعان لانشراح الصدر و ضيقه‏ .

جلد8 ص51تا ص52(تدریس استادجوارشکیان علاوه برسرفصل)

....و أما الذي استقر عليه اعتقادنا فهو أن النفس‏«2»كل القوى و هي مجمعها الوحداني و مبدؤها و غايتها و هكذا الحال في كل قوة عالية بالنسبة إلى ما تحتها من القوى التي تستخدمها و إن كان استخدامها بالتقديم و التأخير فهذه القوى متقدمة بعضها على بعض- و كل ما هو أقدم بالزمان فهو آخر بالرتبة و الشرف فالنفس التي لنا أو لكل حيوان- فهي جامعة لأسطقسات بدنه و مؤلفها و مركبها على وجه يصلح لأن يكون بدنا لها- و هي أيضا التي تغذيه و تنميه و تكمله شخصا بالتغذية و نوعا بالتوليد و تحفظ صحته عليه و تدفع مرضه عنه و ترده على مزاجه الصحيح الذي كان به صلاحه إذا فسد و تديمه على النظام الذي ينبغي فلا يستولي عليه المغيرات الخارجية ما دامت النفس موجودة فيه- و لو لا أن النفس كما أنها مبدأ للأفاعيل‏«3»الإدراكية و الحيوانية مبدأ للأفاعيل النباتية و الطبيعية في المادة البدنية لما بقيت على صحتها بل فسدت باستيلاء الأحوال الخارجية عليها و لما كان ما يعرض النفس من القضايا و الاعتقادات المحبوبة أو المؤلمة الواردة على النفس- التي تلذها أو تؤلمها مؤثرة في البدن مفيدة للقوى النامية قوة أو ضعفا و ليس هذا التأثير في البدن من الاعتقاد بما هو اعتقاد ما لم يتبعه انفعال في المواد اللطيفة السارية في البدن من سرور أو غم هما أيضا من الأحوال النفسانية و لكن يتبعها تغيير في أحوال الروح البخاري و مزاجه ثم في أحوال البدن الكثيف و مزاجه بتوسط القوى أما الفرح النطقي فيزيد القوى البدنية كالنامية أو ما هو أدنى منزلة منها شدة و نفاذا و الغم النطقي يفيدها ضعفا و عجزا و فتورا حتى يفسدها فعلها و ينتقص المزاج و ذلك من أقوى الدلالة على أن النفس يسري فعلها و تدبيرها في المادة الأخيرة و القشر الأكثف الأبعد من لباب جوهرها الألطف الأعلى فقد ثبت أن النفس الحيوانية بل الإنسانية جامعة لهذه القوى الإدراكية و النباتية- و موضوعاتها القريبة و البعيدة فهي إذن كمال لموضوع هو لا يتقوم إلا به و هو أيضا مكمل النوع و صانعه لأن الأشياء«1»المتخالفة بالأنفس متخالفة بالحقيقة النوعية لا بمجرد العوارض الشخصية ليكون الأنفس للأبدان كالهيئات اللاحقة للأنواع المحصلة بعد تمامها.

و اعلم أيضا أن القوى النباتية الموجودة في النبات مخالفة بالماهية و النوعية- للقوى النباتية الموجودة في الحيوان و هي في الموضعين ليس بعرض كما توهم بل جوهر أما في النبات فبالفعل و أما في الحيوان فبالقوة و معنى القوة هاهنا غير ما يصحبه الإمكان الاستعدادي بل هذه القوة كما يقال في المعقولات بالقياس إلى العقل البسيط إنها فيه بالقوة الفعلية الإجمالية و هي كائنة عن العقل البسيط تكون الفعل عن الفاعل لا تكون الشي‏ء عن القابل المستعد له‏

جلد8 ص121تا ص124(تدریس استادجوارشکیان علاوه برسرفصل)

....هذا كما أن‏ بالهيئات التي وجدت في الأول و العقول الفعالة أعني المعقولات وجد ما بعدها و كما أنه ينتقش في العقول تلك الصور على اللزوم فكذلك ينتقش في القوة الغاذية مثلا صورة تشكل الإنسان بشركة المادة بوجود هذه القوة في المادة انتهى كلامه و المقصود منه إزالة الاستبعاد من صدور هذه الأفاعيل عن النفس بتوسط قواها و هيئاتها و سبب ذلك أن جميع الموجودات التي بعد الوجود الأول الواجب يشتمل لوحدته على لوازم و هيئات و معاني كثيرة بحسب مقامه و مرتبته في الوجود يحاكي السبب الأول في كونه واحدا و مع وحدته عين جميع الصفات الإلهية و الأسماء الربانية و قد علمت من قبل أن الباري كل «1» الأشياء بلا تكثر و هكذا كل ما هو أقرب إليه أشد وحدة و أكثر جمعا للمعاني حتى أن كل موجود عالم في نفسه يحاكي عالم الربوبية فالنفس الإنسانية يجتمع في ذاتها جميع ما يتفرق في البدن و صور الأعضاء من القوى و الآلات فاختلاف أشكال الأعضاء ظلال لاختلاف القوى المدركة- و المحركة المنبثة «2» آلاتها في سائر الأعضاء حسب انبثاث الروح المنبعث من القلب‏في الأوردة و الشرايين و تلك القوى أيضا مع اختلافها و تشعبها يجتمع في وجود النفس و تتحد بها النفس كاتحاد العقل بالمعقولات بالفعل و بالجملة القوى السافلة تتفرع- و تتوزع عند انفصالها و فيضانها عن القوى العالية ثم تفعل أفاعيلها المختلفة على حسب أغراض تلك القوى العالية خدمة و طاعة إياها و إن لم يكن لها شعور بتلك الأغراض و الغايات كما أن القوة الجاذبة و الهاضمة و الدافعة تفعل فعلها لأغراض النفس في تدبيرها للبدن و ليس للجاذبة و الهاضمة شعور بذلك الغرض بالاستقلال و لكن على حسب التبعية و الاتصال بالنفس و كذلك في القوى الإدراكية فإن قوة السمع و قوة البصر يفعلان فعلهما لغرض النفس و إدراكهما عين إدراك النفس و للنفس «1» في ذاتها سمع و بصر و شم و ذوق و لمس و لذلك «2» يصدر عنها هذه الإدراكات في النوم عند تعطل هذه الحواس الظاهرة فكل من هذه المشاعر إذا فعل فعله فإنما يفعل خدمة و طاعة للنفس على حسب الجبلة فهكذا حكم القوة المصورة في تصويرالأعضاء و تشكيلها على حسب أغراض النفس و حاجاتها و مآربها.

و ليس لأحد أن يعترض بأن القوة المصورة قوة جسمانية لا شعور لها بهذه الأغراض فكيف تفعل هذه الأفاعيل التي يترتب عليها تلك الأغراض و ما خلقت إلا لتلك الفوائد و الغايات.

لأن جوابه أن تلك القوة مما تستخدمها قوة أخرى فوقها هي النفس فإن رجع و قال إنا نعلم أن نفوسنا غير شاعرة بتلك الأغراض و المنافع و المصالح.

قلنا نفسك ما دامت بالقوة و في حد النقصان حكمها حكم تلك القوة المصورة- التي تفعل فعلها بالمباشرة خدمة و طاعة لقوة أخرى فوقها و لو فرضنا نفسك قد خرجت من حد القوة و النقصان إلى حد الفعلية و الكمال لشاهدت بنور البصيرة أنها تستخدم سائر القوى التي هي من جنودها و خدمها لأجل أغراض و مصالح حكمية فيها صلاح شخصها أو نوعها إما بحسب نشأة الطبيعة أو نشأة أخرى فقول القائل المذكور إن المادة تستعد لأمر واحد هو النفس أراد بالمادة المني و بالاستعداد استعدادا بعيدا من شأنه أن يصير قريبا بانفعالات و استحالات كثيرة يطرأ عليها شيئا بعد شي‏ء فإن الفائض عليه من آثار النفس ليس إلا صورة حافظة لتركبه من الفساد و الضيعان لكن من شأن تلك الصورة أن تقوى و تتكامل و تشتد حتى تبلغ إلى مرتبة فوقها و هكذا الكلام في تلك المرتبة من الصورة و قوله لكن النفس لها آلات و لوازم و قوى متخالفة تتحد نوعا من الاتحاد أراد به اختلاف درجات النفس و مقاماتها- فكل ما يعد من آلات النفس و قواها كان تلك الآلة و القوة تفعل فعلها قبل حدوث مستعملها على وجه يصلح أن تصير معدة لفيضان صورة أخرى مستعملة إياها قاهرة عليها من غير تمرد و عصيان في جبلتها و هكذا إلى آخر مرتبة من مقامات النفس و هذا هو الدين الإلهي الفطري الذي جبل عليه كل قوة أنها تفعل فعلها على وجه يكون مطلوبها- لا يناقض مطلوب ما هو فوقها بل ينحو نحوه و يؤم قصده و يجري في طريقه.

و بهذا يندفع الإشكال بأن المصورة لو كانت من قوى النفس يلزم أن يفعل الآلة قبل حدوث مستعملها أعني النفس و ذلك لأن تلك القوة قبل فيضان النفس لم تكن‏موصوفة بأنها آلة للنفس بل كانت بمنزلة صورة أو كمال أول كسائر القوى الحيوانية أو النباتية التي تحدث قبل النفس الإنسانية فإن الصورة الحيوانية بل التي قبلها- أي الصورة النباتية إذا حدثت في مادة البدن لا شبهة في أنها تفعل أفاعيلها لا على سبيل التوسيط بل على وجه الاستقلال و الرئاسة ثم إذا اشتد كماله و قويت ذاته و بلغت إلى مقام الناطقة متحدة معها استحالت ذاتها مقهورة مطيعة لأمر الله و فعلت ما كانت تفعل خدمة و طاعة لهذا الجوهر العالي و هو المراد بقوله يتحد نوعا من الاتحاد- لأن النفس الإنسانية هي بعينها تدرك الكليات و الجزئيات و تحس و تحرك و تغذو و تنمو و تولد و تحفظ المزاج و بالجملة تفعل بذاتها جميع ما فعلت الصورة الجمادية- و النفس النباتية و النفس الحيوانية فهي بوحدتها كل هذه الجواهر التي توجد في الخارج كل منها نوعا مستقلا تاما في هويته و ذاته و قوله فوجب أن يكون في تلك المادة استعدادات مختلفة تتحد معها على ضرب من الوحدة و هي كيفية المزاج لم يرد به أن في المني استعداد فيضان جميع هذه القوى و الآلات النفسانية و لوازمها ابتداء في أول الكون حتى يرد «1» عليه أن استعداد النطفة لقبول النفس الناطقة و قواها لا يحصل إلا بعد صيرورتها بدنا إنسانيا و صيرورتها بدنا إنسانيا لا يحصل إلا بعد وجود هذه القوى- و الآلات و اللوازم و قد علمت «2» مما ذكر مرارا أن الإمكانات و الاستعدادات القريبة أبدا تابعة للصور و الكيفيات الموجودة بالفعل فما به الاستعداد و القوة شي‏ء غير نفس الاستعداد و القوة و غير المستعد له و المقوي عليه لكن يجب أن يكون مناسبا إياه و واقعا في طريقه كأجزاء الحركة كل سابق منها يوجب استعداد اللاحق- فمراده أن «3» المني جوهر من شأنه أن يصير بتوارد الانفعالات و التقلبات أن يطرأ عليه...‏

جلد8 ص133تا ص143(تدریس استادجوارشکیان علاوه برسرفصل)

فصل (9) في أن لكل بدن نفسا واحدة و أن القوى التي أحصيناها تنشأ منها بل هي تفاصيل ذاتها و شروح هويتها

و اعلم أن جماعة من القاصرين لما رأوا في الإنسان آثار مباد طبيعية كالحرارة و البرودة و الجذب و الدفع و الإحالة و النضج و غير ذلك مما يصدر مثلها من صور العناصر- و رأوا آثارا أخرى نباتية كالتغذية و التنمية و التوليد مما يصدر من نفوس النباتات- و رأوا آثارا كالحس و التخيل و الشهوة و الغضب مما يصدر أمثالها من النفوس الحيوانية- ثم رأوا فيه أفعالا و إدراكات نطقية و حركات فكرية فظنوا أن الإنسان مركب من صورة طبيعية و نفوس ثلاثة أخرى نباتية و حيوانية و إنسانية و من ارتقى من هذه الطائفة و ارتفع عنهم في هذا الباب ارتفاعا يسيرا رأى أن الإنسان هو النفس العاقلة و سائر المقامات أمور عارضة لها من مبدإ حدوثها إلى آخر دهرها حتى يكون البدن و قواه بالنسبة إليها- كآلات ذوي الصنائع من حيث لا مدخل لها في حقيقتها و نحو وجودها بل في تتميم أفاعيلها- و ليس الأمر كما زعموه.

بل الحق أن الإنسان له هوية واحدة ذات نشأة و مقامات و يبتدى‏ء وجوده أولا من أدنى المنازل و يرتفع قليلا إلى درجة العقل و المعقول كما أشار سبحانه‏هَلْ أَتى‏ عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً«1»إلى قوله‏إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراًو لو لم يكن للنفس‏«2»مع البدن رابطة اتحادية لا كرابطة إضافية شوقية كما زعم أنها كمن يعشق مجاورا لم يكن سوء مزاج البدن أو تفرق اتصاله مؤلما للنفس ألما حسيا كالآلام عقلية أو وهمية فالنفس الإنسانية لكونها جوهرا قدسيا- من سنخ الملكوت فلها وحدة جمعية هي ظل الوحدة الإلهية و هي بذاتها قوة عاقلة إذارجعت إلى موطنها الأصلي و هي متضمنة أيضا لقوة حيوانية على مراتبها من حد التخيل إلى حد الإحساس اللمي و هو آخر مرتبة الحيوانية في السفالة و هي أيضا ذات قوة نباتية على مراتبها التي أدناها الغاذية و أعلاها المولدة و هي أيضا ذات قوة محركة طبيعية قائمة بالبدن كما قال الفيلسوف الأعظم أرسطاطاليس من أن النفس ذات أجزاء ثلاثة نباتية و حيوانية و نطقية لا بمعنى تركيبها عن هذه القوى لأنها بسيطة الوجود بل بمعنى كمال جوهريتها و تمامية وجودها و جامعية ذاتها لهذه الحدود الصورية و هذه القوى على كثرتها و تفنن أفاعيلها معانيها موجودة كلها بوجود واحد في النفس و لكن على وجه بسيط لطيف يليق بلطافة النفس كما أن معاني الأنواع الجسمانية توجد في العقل متحدة صائرة إياها بعد ما ارتفعت عنده من حد المحسوسية إلى حد المعقولية فكما يوجد في العقل جميع الأنواع الطبيعية على وجه أرفع و أعلى فكذلك توجد بوجود النفس جميع القوى الطبيعية و النباتية و الحيوانية- وجودا نفسانيا أعلى و أرفع من وجوداتها في مواضعها الأخرى و بالجملة النفس الآدمية تنزل من أعلى تجردها إلى مقام الطبيعة و مقام الحاس و المحسوس و درجتها عند ذلك درجة الطبائع و الحواس فيصير عند اللمس مثلا عين العضو اللامس و عند الشم و الذوق عين الشام و الذائق و هذه أدنى الحواس و إذا ارتفع إلى مقام الخيال كانت قوة مصورة و لها أن يرتفع عن هذه المنازل إلى مقامات العقول القادسة فيتحد«1»بكل عقل و معقول و أكثر المتأخرين من الفلاسفة كالشيخ و أتباعه لما لم يحكموا أساس‏علم النفس لذهولهم عن مسألة الوجود و كماله و نقصه و مباديه و غاياته أنكروا هذا المعنى و زعموا أن الأمر لو كان كذلك لكانت النفس متجزية و لكان العقل الفعال منقسما«1»حسب تعدد النفوس العاقلة و لكان كل من نفوسنا يعلم ما يعلمه الأخرى من النفوس و قد مر البرهان‏«2»النوري الكاشف لحجب هذه المضايق و الشكوك بحمد الله عند كلامنا في اتحاد العاقل بالمعقول‏

فصل (10) في أن هذه المراتب من النفس بعضها سابقة في الحدوث على بعض كما مر

فالنفس الآدمية ما دام كون الجنين في الرحم درجتها درجة النفوس النباتية على مراتبها و هي إنما تحصل بعد تخطي الطبيعة درجات القوى الجمادية فالجنين الإنساني نبات بالفعل حيوان بالقوة لا بالفعل إذ لا حس له و لا حركة و كونه حيوانا بالقوة فصله المميز عنه عن سائر النباتات الجاعل له نوعا مباينا للأنواع النباتية و إذا خرج الطفل من جوف أمه صارت نفسه في درجة النفوس الحيوانية إلى أوان البلوغ الصوري- و الشخص حينئذ حيوان بشري بالفعل إنسان نفساني بالقوة ثم يصير نفسه مدركة للأشياء بالفكر و الروية مستعملة للعقل العملي و هكذا إلى أوان البلوغ المعنوي و الرشد الباطني باستحكام الملكات و الأخلاق الباطنة و ذلك في حدود الأربعين غالبافهو في هذه المرتبة إنسان نفساني بالفعل و إنسان ملكي أو شيطاني بالقوة يحشر في القيامة إما مع حزب الملائكة و إما مع حزب الشياطين و جنودهم فإن ساعده التوفيق و سلك مسلك الحق و صراط التوحيد و كمل عقله بالعلم و طهر عقله بالتجرد عن الأجسام يصير ملكا بالفعل من ملائكة الله الذين هم في صفة العالمين المقربين و إن ضل عن سواء السبيل و سلك مسلك الضلال و الجهال يصير من جملة الشياطين أو يحشر في زمرة البهائم و الحشرات‏

فصل (11) في طور آخر من تعديد القوى الإنسانية على منهج أهل البصيرة

قال بعض أهل العرفان إشارة إلى معنى قوله تعالى‏وَ ما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَإن لله تعالى في القلوب و الأرواح و غيرهما من العوالم جنودا مجندة لا يعرف حقيقتها و تفصيل عددها إلا هو و نحن الآن نشير إلى بعض جنود القلب يعني النفس الناطقة و هو الذي يتعلق بغرضنا و له جندان جند يرى بالأبصار و هي الأعضاء و الجوارح- و جند لا يرى إلا بالبصائر و هي القوى و الحواس و جميعها خادمة للقلب و مسخرة له- و هو المتصرف فيها و قد خلقت مجبولة على طاعة القلب لا يستطيع له خلافا و لا عليه تمردا- فإذا أمر العين للانفتاح انفتحت و إذا أمر الرجل للحركة تحركت و إذا أمر اللسان بالكلام و جزم الحكم به تكلم و كذا سائر الأعضاء و تسخر الأعضاء و الحواس للقلب يشبه من وجه تسخر الملائكة لله تعالى فإنهم جبلوا على الطاعة لا يستطيعون له خلافا و لا يعصون الله ما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون و إنما افتقر القلب إلى هذه الجنود- من حيث افتقاره إلى المركب و الزاد لسفره الذي لأجله خلق و هذا السفر إلى الله و قطع المنازل إلى لقائه فلأجله جبلت القلوب قال تعالى‏وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏و إنما مركبه البدن و زاده العلم و إنما الأسباب الموصلة التي توصله إلى الزاد و تمكنه من التزود و العمل الصالح فافتقر أولا إلى تعهد البدن و حفظه من الآفات بأن يجلب إليه ما يوافقه من الغذاء و غيره و بأن يدفع عنه ما ينافيه و يهلكه‏من أسباب الهلاك فافتقر لأجل طلب الغذاء إلى جندين باطن هو قوة الشهوة و ظاهر هو البدن و الأعضاء الجالبة للغذاء فخلق في القلب جنود كثيرة من باب الشهوات كلها تحت قوة الشهوة و خلقت الأعضاء التي هي آلات الشهوة و افتقر لأجل دفع المؤذيات و المهلكات إلى جندين باطن و هو قوة الغضب الذي به يدفع المهلكات و ينتقم من الأعداء- و ظاهر و هو اليد و الرجل الذي يعمل به بمقتضى الغضب و كل ذلك بأمور خارجة من البدن كالأسلحة و غيرها ثم المحتاج إلى الغذاء إذا لم يعرف الغذاء الموافق لا ينفعه شهوة الغذاء و آلته فافتقر في المعرفة إلى جندين باطن و هو إدراك البصر و السمع و الذوق و الشم و اللمس و ظاهر و هو العين و الأذن و الأنف و غيرها و تفصيل وجه الحاجة إليها و وجه الحكمة فيها مما يطول شرحه و لا يحويها مجلدات كثيرةفجملة جنود القلب يحصرها ثلاثة أصناف‏:

أحدها باعث مستحث‏إما إلى جلب المنافع النافع كالشهوة و إما إلى دفع المضار المنافي كالغضب و قد يعبر عن هذا الباعث بالإرادة.

و الثاني هو المحرك للأعضاءإلى تحصيل هذه المقاصد يعبر عن هذا الثاني بالقدرة و هي جنود مبثوثة في سائر الأعضاء لا سيما بالعضلات منها و الأوتار.

و الثالث و هو المدرك المتصرف‏«1» للأشياء كالجواسيس و هي مبثوثة في أعضاء معينة فمع كل واحد من هذه الجنود الباطنة جنود ظاهرة هي الأعضاء التي أعدت آلات لهذه الجنود فإن قوة البطش إنما يبطش بالأصابع و قوة البصر إنما تدرك بالعين و كذا سائر القوى و لسنا نتكلم في الجنود الظاهرة التي هي الأعضاء فإنها من عالم الملك و الشهادة و إنما نتكلم الآن فيما أيد به من جنود لم تروها و هذا الصنف الثالث و هو الدراك منهذه الجملة تنقسم إلى ما أسكن المنازل الظاهرة و هي الحواس الخمس و إلى ما أسكن منازل باطنة و هي تجاويف الدماغ و هي أيضا خمسة فهذه أقسام جنود القلب.

و قال أيضا اعلم أن جندي الغضب و الشهوة قد تنقادان للقلب انقيادا تامافيعينانه على طريقه الذي يسلكه و يحسنان مرافقته في السفر الذي هو بصدده و قد يستعصيان عليه استعصاء بغي و تمرد حتى يملكانه و يستعبدانه و فيه هلاكه و انقطاعه- عن سفره الذي به وصوله إلى سعادة الأبد و للقلب جند آخر و هو العلم و الحكمة و التفكر و حقه أن يستعين بهذا الجند فإنه حزب الله على الجندين الآخرين- فإنهما يلتحقان بحزب الشيطان فإن ترك الاستعانة به و سلط على نفسه الغضب و الشهوة هلك يقينا و خسر خسرانا مبينا و ذلك حال أكثر الخلق فإن عقولهم صارت مسخرة لشهواتهم في استنباط الحيل لقضاء الشهوة و يجب أن يكون شهواتهم مسخرة لعقولهم فيما يفتقر إليه انتهى كلامه و لعمري أنه صدر من عين البصيرة و منبع التحقيق و ربما عبر هو و أترابه عن القوى المدركة بالطيارة و عن القوى المحركة بالسيارة و ذلك لأن القوى المدركة أسرع وصولا إلى مقاصدها و مدركاتها بل ضرب منها آني الوصول إلى المعلوم و ضرب منها محض الإدراك بالفعل بلا قوة منتظرة- و هذا بخلاف القوى المحركة فإنها لا تخلو عن تراخي زمان و تجدد أحوال.

و اعلم أن كون نسبة القوى إلى النفس كنسبة الملائكة إلى الرب مما ذهب إليه كثير من أعاظم العلماء منهم صاحب إخوان الصفا حيث ذكر فيه قال الملك لحكيم من الجن- كيف طاعة الملائكة لرب العالمين قال كطاعة الحواس الخمس للنفس الناطقة قال زدني بيانا قال أ لا ترى أيها الملك أن الحواس الخمس في إدراك محسوساتها و إيرادها أخبار مدركاتها إلى النفس الناطقة لا يحتاج إلى أمر و نهي و لا وعد و لا وعيد بل كلما همت به النفس الناطقة بأمر محسوس امتثلت الحاسة لما همت به و أدركتها و أوردتها إليها بلا زمان و لا تأخر و لا إبطاء و هكذا طاعة الملائكة لرب العالمين الذين لا يعصون الله ما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون لأنه أحكم الحاكمين.

و اعلم أن النفس ما دام كونه متعلقة بالبدن غير واصلة إلى النشأة الكاملة العقلية لا تصرف لها إلا في القوى الحيوانية التي علمت أقسامها الثلاثة و ما يتفرع عنها من القوى المبثوثة في الجسم و أما إذا كملت بالعلم و العمل فيطيعها الأكوان العقلية و الروحانية و الحسية كلها طاعتها لملك الملوك‏.

و قال الشيخ العارف صاحب الفتوحات في الباب الحادي و الستون و ثلاثمائة حيث أراد بيان أن الإنسان الكامل خليفة الله مخلوق على صورة الرحمن بعد ما روى الحديث الإلهي لأهل الجنة من أنه ورد في خبر أهل الجنة أنه يأتي إليهم الملك فيقول‏ «1» بعد أن يستأذن عليهم في الدخول فإذا دخل ناولهم كتابا من عند الله بعد أن يسلم عليهم من الله فإذا في الكتاب لكل إنسان يخاطبه من الحي القيوم‏ «2» إلى الحي القيوم أما بعد فإني أقول للشي‏ء كن فيكون و قد جعلتك اليوم تقول للشي‏ء كن فيكون-فقال ص: فلا يقول أحد من أهل الجنة لشي‏ء كن إلا و يكون بهذه العبارةفجاء بشي‏ء «3» و هو من أنكر النكرات فعم و غاية الطبيعة تكوين الأجسام و ما يحمله- فليس لها العموم و غاية النفس تكوين الأرواح الجزئية في النشئات الطبيعية و الأرواح من العالم فلم تعم فما أعطى‏ «4» العموم إلا للإنسان الكامل حامل السر الإلهي و كل ما سوى الله جزء من كل‏ «5» الإنسان فاعقل إن كنت تعقل فانظر في كل ما سوى الله‏و ما وصفه الحق به و هو قوله‏ وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ‏ و وصف‏ «1» الكل بالسجود و ما جعل لواحد منهم أمرا في العالم و لا نهيا و لا خلافة و لا تكوينا عاما و جعل ذلك للإنسان الكامل فمن أراد أن يعرف كماله فلينظر في نفسه في أمره و نهيه و تكوينه بلا واسطة لسان و لا جارحة و لا مخلوق غيره فإن صح المضاء في ذلك فهو على بينة من ربه في كماله فإنه عنده شاهد منه أي من نفسه في أمره و نهيه و تكوينه بلا واسطة و هو ما ذكرناه فإن أمر أو نهى أو شرع في التكوين بواسطة جارحة من جوارحه فلم يقع شي‏ء من ذلك أو وقع في شي‏ء دون شي‏ء و لم يعم مع عموم ذلك بترك الواسطة فقد كمل و لا يقدح في كماله ما لم يقع في الوجود عن أمره بالواسطة فإن الصورة «2» الإلهية بهذا ظهرت في الوجود فإنه أمر تعالى عباده على ألسنة رسله و في كتبه و منهم من أطاع و منهم من عصى و بارتفاع الوسائط لا سبيل إلا لطاعة خاصة لا يصح و لا يمكن إباؤه‏قال ص: يد الله مع الجماعةو قدرته نافذة و لهذا لو اجتمع الإنسان في نفسه حتى صار شيئا واحدا نفذت همته فيما يريد و هذا ذوق أجمع عليه أهل الله قاطبة- فإن‏ «1» يد الله مع الجماعة فإن‏ «2» بالمجموع ظهر العالم و الأعيان ليست إلا هو- انظر في قوله تعالى‏ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى‏ ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ‏ انتهت عبارته في توضيح المقام الجمعي و الخلافة الإلهية للإنسان الكامل و الحمد لله الذي أوضح لنا بالبرهان- الكاشف لكل حجاب و لكل شبهة سبيل ما أجمع عليه أذواق أهل الله بالوجدان و أكثر مباحث هذا الكتاب مما يعين في تحقيق هذا المطلب الشريف الغامض و غيره من المقاصد العظيمة الإلهية التي قصرت عنها أفكار أولي الأنظار إلا النادر القليلمن الجامعين‏ لعلوم المتفكرين مع علوم المكاشفين و نحن جمعنا فيه بفضل الله بين الذوق و الوجدان- و بين البحث و البرهان و لنعد إلى حيث ما فارقناه‏

 

دیدگاه‌ها   

+1 # کارگری 1392-08-03 15:31
سلام ازجلد8صص121تا 124هم هست.
پاسخ دادن | پاسخ به نقل قول | نقل قول کردن
0 # یزدان بخش 1392-08-03 16:29
به نقل از کارگری:
سلام ازجلد8صص121تا 124هم هست.

سلام ممنون جناب دکتر مواردی که فرمودید اضافه گردید
پاسخ دادن | پاسخ به نقل قول | نقل قول کردن

نوشتن دیدگاه


تصویر امنیتی
تصویر امنیتی جدید