متن عربی درس صدرالمتالهین2(براساس مصوبه شورای برنامه ریزی وزارت علوم،تحقیقات وفناوری)

                                          متن درس صدرالمتالهین 2      استادسیدمرتضی حسینی شاهرودی

الحکمه المتعالیه فى الاسفار العقلیه الاربعه

جلد3-المرحله العاشره الطرف الاول فصل های 20-19-9-8-7-4) و

 (جلد9- الباب العاشر-فصل 5)


ج 3فصل (4) فی تحقیق معنى العلم‏   ص : 297 - 299
العلم لیس أمرا سلبیا کالتجرد عن المادة و لا إضافیا بل وجودا و لا کل وجود بل وجودا بالفعل لا بالقوة و لا کل وجود بالفعل بل وجودا خالصا غیر مشوب بالعدم و بقدر خلوصه عن شوب العدم یکون شدة کونه علما
و بیان هذا أن المادة الأولى أمر مبهم فی ذاته و هی غیر موجودة بالفعل و إنما یتحصل و یتقوم ذاتا- متحققة بالجسم و لواحقه کالحرکة و ما ینشأ منها «1» و الجسم بما هو جسم لا یکون له وجود خالص عن العدم الخارجی فإن کل جزء مفروض فیه وجوده یقتضی عدم غیره من الأجزاء و عدم الکل فإنه إذا وجد ذلک الجزء کان الکل معدوما و کذا یسلب عنه سائر الأجزاء و لأن الوجود عین الوحدة أو ملازم لها فما لا وحدة له لا وجود له و کذا الحمل و الهوهویة من لوازم الوحدة فما لا هوهویة له فلا وجود له لشی‏ء «1» و شی‏ء من أجزاء الجسم المتصل و لو بحسب الوهم لا یحمل على الجسم- و لا الجسم یحمل على شی‏ء من تلک الأجزاء مع أنه حاصل الهویة من اتصال تلک الأجزاء و کماله بزیادة ذلک الاتصال فی تمادیه و ما کمال الشی‏ء یوجب زواله- فکیف یکون فی نفسه موجودا مستقلا و بالجملة الجسم حقیقة افتراقیة فی وجودها قوة عدمها «2» و فی عدمها قوة وجودها فوجود کل فرد منه کالذراع مثلا عین عدم فرد آخر أو ضده ففیه قوة زوال نفسه و هذا غایة ضعف الوجود لشی‏ء حیث وجوده یوجب عدمه و هو کالکثرة فی ضعف الوحدة فإن وحدة الکثرة عین کثرتها لشی‏ء و الفرق بین الهیولى الأولی و بین الجسم فی نقص الوجود أن الهیولى بعینها- قوة صرفة لوجود الأشیاء الکثیرة و أما الجسم ففی وجوده قوة عدمه فما هذا شأنه یوجد بتمامه لذاته و ما لا یوجد بتمامه لذاته لا یناله شی‏ء آخر و النیل و الدرک من لوازم العلم فلا علم لأحد بشی‏ء من الجسم و أعراضه اللاحقة إلا بصورة غیر صورتها الوضعیة المادیة التی فی الخارج لأن تلک الصورة بعینها إذا حصلت لشی‏ء- کان ذلک الشی‏ء إما مادتها التی هی محلها أو الأمر الذی یحلها أو الأمر الذی یحل معها فی محلها و حکم الجمیع کحکم الصورة الجسمیة الخارجیة فی أن لا وجود لها لذاتها و لیس لشی‏ء منها عند شی‏ء وجود إلا بحسب أطرافها و نهایاتها و نهایة الشی‏ء خارجة عن ذاته و الإدراک یتعلق بذوات الأشیاء و أجزائها الداخلة فعلم مما ذکرنا أن أصل الوجود لا یکفی فی کون الشی‏ء مدرکا و منالا لشی‏ء یدرکه و یناله ذلک الشی‏ء بل وجودا غیر ذی وضع بالمعنى الذی هو من المقولة فالوجود القوی الذی لا یصحبه هذه الشوائب العدمیة هو عبارة عن الإدراک فهذا یمکن أن یکون هو المراد بما ذکره القائل سابقا إن التعقل هو المجموع الحاصل من حضور الشی‏ء و حالة أخرى له لو کان أراد بتلک الحالة استقلال الوجود و تأکده فی الجملة بأن یکون منقسما و لا ذا وضع حسی واقع فی جهة من جهات العالم الوضعی و هذا حال کل صورة إدراکیة فإنها غیر قابلة للإشارة الوضعیة فإن الصورة التی ینالها الحس لیست بالحقیقة هی التی تسمى بالکیفیات المحسوسة و لا التی تسمى بأوائل الملموسات و هی الحرارة الخارجیة و البرودة الخارجیة القابلة للإشارة الحسیة الوضعیة فإنها محسوسة بالقصد الثانی و بالعرض لا بالقصد الأول و بالذات فإن المحسوس من حیث هو محسوس وجوده فی نفسه بعینه وجوده للجوهر الحاس به- و هذا النحو من الوجود هو محسوسیته کما أن وجود المعقول من حیث هو معقول- و معقولیته و حصوله للجوهر العاقل بعینه شی‏ء واحد فالصورة المحسوسة بالذات- لیس وجودها وجودا ذا وضع یمکن الإشارة إلیها و إن کان من شرائط الإدراک الحسی حصول نسبة وضعیة بین آلة الإدراک و الشی‏ء الذی یؤخذ منه تلک الصورة- و هذه النسبة غیر ثابتة بین تلک الصورة و ما یطابقه و تؤخذ منه و ذلک الشرط غیر محتاج إلیه فی غیر الإدراک الحسی من الإدراکات الخیالیة و الوهمیة و العقلیة و لیس أیضا حصول الصورة الإدراکیة للمشاعر و المشاهد الإدراکیة کحصول الصور الکائنة فی محالها الخارجیة کما سنتلو علیک وجوه الفرق بین الحصولین‏

ج 3 فصل (7) فی بیان أن التعقل عبارة عن اتحاد جوهر العاقل بالمعقول  ص 312- 321
إن مسألة کون النفس عاقلة لصور الأشیاء المعقولة من أغمض المسائل الحکمیة التی لم ینقح لأحد من علماء الإسلام إلى یومنا هذا و نحن لما رأینا صعوبة هذه المسألة و تأملنا فی إشکال کون العلم بالجوهر جوهرا و عرضا و لم نر فی کتب القوم سیما کتب رئیسهم أبی علی کالشفاء و النجاة و الإشارات و عیون الحکمة و غیرها ما یشفی العلیل و یروی الغلیل بل وجدناه و کل من فی طبقته و أشباحه- و أتباعه کتلمیذه بهمنیار و شیخ أتباع الرواقیین و المحقق الطوسی نصیر الدین و غیرهم من المتأخرین لم یأتوا بعده بشی‏ء یمکن التعویل علیه و إذا کان هذا حال‏ هؤلاء المعتبرین من الفضلاء فما حال غیر هؤلاء من أصحاب الأوهام و الخیالات و أولى وساوس المقالات و الجدالات فتوجهنا توجها جبلیا إلى مسبب الأسباب- و تضرعنا تضرعا غریزیا إلى مسهل الأمور الصعاب فی فتح هذا الباب إذ کنا قد جربنا مرارا کثیرة سیما فی باب إعلام الخیرات العلمیة و إلهام الحقائق الإلهیة- لمستحقیه و محتاجیه إن عادته الإحسان و الإنعام و سجیته الکرم و الإعلام و شیمته رفع أعلام الهدایة و بسط أنوار الإفاضة فأفاض علینا فی ساعة تسویدی هذا الفصل من خزائن علمه علما جدیدا و فتح على قلوبنا من أبواب رحمته فتحا مبینا- و ذلک فضل الله یؤتیه من یشاء و الله ذو الفضل العظیم فنقول امتثالا لقوله تعالى وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّکَ فَحَدِّثْ إن صور الأشیاء على قسمین إحداهما صورة مادیة قوام وجودها بالمادة و الوضع و المکان و غیرها و مثل تلک الصورة لا یمکن أن یکون بحسب هذا الوجود المادی معقولة بالفعل بل و لا محسوسة أیضا کذلک إلا بالعرض- و الأخرى صورة مجردة عن المادة و الوضع و المکان تجریدا أما تاما فهی صورة معقولة «1» بالفعل أو ناقصا فهی متخیلة أو محسوسة بالفعل و قد صح عند جمیع الحکماء- أن الصورة المعقولة بالفعل وجودها فی نفسها و وجودها للعاقل شی‏ء واحد من جهة واحدة بلا اختلاف «2» و کذا المحسوس بما هو محسوس وجود فی نفسه و وجوده للجوهر الحاس شی‏ء واحد بلا اختلاف جهة فإذا کان الأمر هکذا فلو فرض أن المعقول بالفعل أمر وجوده غیر وجود العاقل حتى یکونا ذاتین موجودتین متغایرتین لکل منهما هویة مغایرة للأخرى و یکون الارتباط بینهما بمجرد الحالیة و المحلیة کالسواد و الجسم الذی هو محل السواد لکان یلزم حینئذ أن یمکن اعتبار وجود کل منهما مع عزل النظر عن اعتبار صاحبه لأن أقل مراتب الاثنینیة بین شیئین اثنین- أن یکون لکل منهما وجود فی نفسه و إن قطع النظر عن قرینة لکن الحال فی المعقول بالفعل لیس هذا الحال إذ المعقول بالفعل لیس له وجود آخر إلا هذا الوجود الذی هو بذاته معقول لا بشی‏ء آخر و کون الشی‏ء معقولا لا یتصور «1» إلا بکون شی‏ء عاقلا له فلو کان العاقل أمرا مغایرا له لکان هو فی حد نفسه مع قطع النظر عن ذلک العاقل غیر معقول فلم یکن وجوده هذا الوجود العقلی و هو وجود الصورة العقلیة فإن الصورة المعقولة من الشی‏ء المجردة عن المادة سواء کان تجردها- بتجرید مجرد إیاها عن المادة أم بحسب الفطرة فهی معقولة بالفعل أبدا سواء عقلها عاقل من خارج أم لا و لیس حکم هذه المعقولیة کحکم متحرکیة الجسم الذی إذا قطع النظر عن محرکه لم یکن هو فی ذلک الاعتبار متحرکا بل جسما فقط و ذلک لأن وجود الجسم بما هو جسم لیس بعینه وجوده بما هو متحرک و لا کحکم متسخنیة الجسم إذا قطع النظر عن تسخین مسخنة فإنه لم یکن هو متسخنا عند ذلک لأن وجوده بعینه لیس وجود السخونة و لا کذلک حکم المعقول بالفعل فإنه لا یمکن أن یکون إلا معقولا بالفعل لأن ذلک الکون فی نفسه هو بعینه معقولیته- سواء عقله غیره أو لم یعقله فهو معقول الهویة بالفعل من غیر حاجة إلى عاقل آخر عقله فإذن هو عاقل بالفعل کما أنه معقول بالفعل و إلا لزم انفکاک المعقول بالفعل عن العاقل بالفعل و قد مر فی مباحث المضاف أن المتضایفین متکافئان فی الوجود «1»
و فی درجة الوجود أیضا إن کان أحدهما بالفعل کان الآخر بالفعل و إن کان بالقوة کان الآخر بالقوة و إن کان أحدهما ثابتا فی مرتبة من المراتب کان الآخر أیضا ثابتا فیها و إذا علمت الحال فی الصورة المعقولة هکذا و هو أن المعقول منها بعینه هو العاقل فاعلم أن الحال فی الصورة المحسوسة أیضا على هذا القیاس فإن المحسوس کما وقع التنبیه علیه ینقسم إلى ما هو محسوس بالقوة و إلى ما هو محسوس بالفعل- و المحسوس بالفعل متحد الوجود مع الجوهر الحاس بالفعل و الإحساس لیس کما زعمه العامیون من الحکماء من أن الحس یجرد صورة المحسوس بعینه من مادته- و یصادفها مع عوارضها المکتنفة و الخیال یجردها تجریدا أکثر لما علم من استحالة انتقال المنطبعات بهویاتها من مادة إلى غیرها.
و لا أیضا معنى الإحساس حرکة القوة الحاسة نحو صورة المحسوس الموجودة فی مادته کما زعمه قوم فی باب الإبصار و لا بمجرد إضافه للنفس إلى تلک الصور المادیة کما زعمه صاحب التلویحات لما مر من أن الإضافة الوضعیة إلى الأجسام- لیست إدراکا لها و الإضافة العلمیة لا یمکن أن یتصور بالقیاس إلى ذوات الأوضاع المادیة بل الإحساس إنما یحصل بأن یفیض من الواهب صورة نوریة إدراکیة یحصل بها الإدراک و الشعور فهی الحاسة بالفعل و المحسوسة بالفعل و أما قبل ذلک فلا حاس و لا محسوس إلا بالقوة و أما وجود صورة فی مادة مخصوصة فهی من المعدات لفیضان تلک الصورة التی هی المحسوسة و الحاسة بالفعل و الکلام فی کون هذه الصورة- حسا و حاسا و محسوسا بعینه کالکلام فی کون الصورة العقلیة عقلا و عاقلا و معقولا قال المعلم الأول فی کتاب أثولوجیا ینبغی أن یعلم أن البصر إنما ینال الأشیاء الخارجة منه و لا ینالها حتى یکون بحیث ما یکون هو هو فیحس حینئذ و یعرفها معرفة صحیحة على نحو قوته کذلک المرء العقلی إذا ألقى بصره على الأشیاء العقلیة لم ینلها حتى یکون هو و هی شیئا واحدا إلا أن البصر یقع على خارج الأشیاء و العقل على باطن الأشیاء فلذلک یکون توحده معها بوجوه فیکون مع بعضها أشد و أقوى من توحد الحس بالمحسوسات و البصر کلما أطال النظر إلى الشی‏ء المحسوس أضربه حتى یصیره خارجا من الحس لا یحس شیئا فأما البصر العقلی فیکون على خلاف ذلک انتهى کلامه فبما ذکرناه اندفع إشکالات کثیرة و مفاسد شنیعة ترد على القول بارتسام صور المعقولات المتباینة الماهیات فی العقل- و کذا ما یرد على القول بانطباع صور الممکنات فی ذات الباری جل اسمه کما هو المشهور من أتباع المشائین فإن التعقل لو کان بارتسام الصورة العقلیة فی ذات العاقل- یلزم فی علم النفس بالجوهر و بالکم و غیرهما کون شی‏ء واحد مندرجا تحت مقولتین بالذات و فی علم الباری کونه محلا للممکنات و یلزم أمور شنیعة أخرى مذکورة فی مواضعها ثم إنهم زعموا أن الجوهر المنفعل العقلی من الإنسان الذی کان عقلا و معقولا بالقوة مما یصادف الصور العقلیة و یدرکها إدراکا عقلیا فنقول تلک القوة الانفعالیة بما ذا أدرکت الصورة العقلیة أ تدرکها بذاتها المعراة عن الصور العقلیات فلیت شعری کیف یدرک ذات عاریة جاهلة غیر مستنیرة بنور عقلی صورة عقلیة نیرة فی ذاتها معقولة صرفة فإن أدرکها بذاتها فالذات العاریة «1» الجاهلة العامیة العمیاء کیف تدرک صورة علمیة و العین العمیاء کیف تبصر و ترى- ف مَنْ لَمْ یَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ و إن أدرکتها بما استنارت به من صورة عقلیة فکانت تلک الصورة عاقلة بالفعل کما کانت معقولة بالفعل بلا حاجة إلى صورة أخرى و إلا لکان الکلام عائدا و یلزم تضاعف الصور إلى غیر النهایة فکان المعقول و العاقل شیئا واحدا بلا اختلاف.
و لیس لقائل أن یقول تلک الصورة واسطة فی کون النفس عاقلة لما سواها- و هی معقولة للنفس بذاتها «2» بمعنى أن ما وراءها مما هی مطابقة إیاها تصیر معقولة للنفس بتلک الصورة.
لأنا نقول لو لم تکن تلک الصورة معقولة للنفس أولا لم یمکن أن یدرک بها غیرها و لیس توسیط تلک الصورة فی إدراک الأشیاء کتوسیط الآلات الصناعیة فی الأعمال البدنیة بل مثالها مثال النور المحسوس فی درک المبصرات حیث یبصر النور أولا و بتوسطه غیره.
على أنا قد أوضحنا بالبرهان القاطع أن الصورة المعقولة معقولة فی ذاتها لذاتها سواء عقلها غیرها أو لم یعقلها و کذا المحسوس بالفعل لا یمکن فرض وجود له لم یکن هو بحسب ذلک الوجود محسوسا فهو محسوس بالفعل و إن قطع النظر عما سواه و لیس وجود الصور الإدراکیة عقلیة کانت أو حسیة للجوهر المدرک کحصول الدار «1» و الأموال و الأولاد لصاحب الدار و المال و الولد فإن شیئا من ذلک الحصول لیس فی الحقیقة حصولا لذات شی‏ء لدى ذات أخرى بل إنما ذلک حصول إضافة لها فقط نعم حصول الصورة الجسمانیة الطبیعیة للمادة التی یستکمل بها و یصیر ذاتا متحصلة أخرى یشبه هذا الحصول الإدراکی «2» فکما لیست المادة شیئا من الأشیاء المعینة بالفعل إلا بالصور و لیس لحوق الصور بها لحوق موجود بموجود- بالانتقال من أحد الجانبین إلى الآخر بل بأن یتحول المادة من مرتبة النقص فی‏ نفسها إلى مرتبة الکمال فکذلک حاک النفس «1» فی صیرورتها عقلا بالفعل بعد کونها عقلا بالقوة و لیس لحوق الصورة العقلیة بها عند ما کانت قوة خیالیة بالفعل عقلا بالقوة کلحوق موجود مباین لموجود مباین کوجود الفرس لنا أو کلحوق عرض‏ لمعروض جوهری مستغنی القوام فی وجوده عن ذلک العرض «1» إذ لیس الحاصل فی تلک الحصولات إلا وجود إضافات لا یستکمل بها شی‏ء و حصول الصورة الإدراکیة للجوهر الدراک أقوى فی التحصیل و التکمیل له من الصور الطبیعیة فی تحصیل المادة و تنویعها و سنعود من بعد إلى دفع الشکوک التی لأجلها قد تحاشی القوم- کالشیخ الرئیس و أتباعه من القول باتحاد العقل بالمعقول على وجه لم یبق لأهل البصیرة مجال شک و اضطراب فی هذا المطلب بتوفیق الله العظیم‏

ج 3فصل (8) فی تأکید القول باتحاد العاقل بالمعقول، 322- 329 أدلة المانعین لذلک‏]
اعلم أن الشیخ الرئیس فی أکثر کتبه نص على إبطال القول باتحاد العاقل بالمعقول و أصر على إبطال ذلک القوم غایة الإصرار و استبعد ذلک غایة الاستبعاد و نحن نذکر فی هذا الفصل ما ذکره فی بطلان هذا القول من استدلالاته و احتجاجاته على ذلک و تشنیعاته على القائلین بالاتحاد بین العقل و العاقل ثم نأخذ فی التفصی عن إشکالاته و الجواب عن احتجاجاته فلقد قال فی کتاب الإشارات إن قوما من المتصدرین یقع عندهم أن الجوهر العاقل إذا عقل صورة عقلیة صار هو هو فلنفرض الجوهر العاقل عقل آ و کان هو على قولهم بعینه المعقول من آ فهل هو حینئذ کما کان عند ما لم یعقل آ أو بطل منه ذلک فإن کان کما کان فسواء عقل آ أو لم یعقلها و إن کان بطل منه ذلک أبطل على أنه حال له و الذات باقیة فهو کسائر الاستحالات لیس على ما یقولون و إن کان على أنه ذاته فقد بطل ذاته و حدث شی‏ء آخر لیس أنه صار شیئا آخر على أنک إن تأملت هذا أیضا علمت أنه یقتضی هیولى مشترکة و تجدد مرکب لا بسیط.
و قال أیضا زیادة تنبیه و أیضا إذا عقل آ ثم عقل ب أ یکون کما کان عند ما عقل آ حتى یکون سواء عقل ب أو لم یعقلها أو یصیر شیئا آخر و یلزم منه ما تقدم ذکره.
و قال فیه أیضا و کان لهم رجل یعرف بفرفوریوس عمل فی العقل و المعقولات کتابا یثنی علیه المشاءون و هو حشف کله و هم یعلمون من أنفسهم أنهم لا یفهمونه- و لا فرفوریوس نفسه و قد ناقضه من أهل زمانه رجل و ناقض هو ذلک المناقض بما هو أسقط من الأول ثم ذکر دلیلا عاما على نفی الاتحاد بین شیئین مطلقا و قال اعلم أن قول القائل إن شیئا ما یصیر شیئا آخر لا على سبیل الاستحالة من حال إلى حال و لا على سبیل الترکیب مع شی‏ء آخر لیحدث عنهما شی‏ء ثالث بل على أنه کان شیئا واحدا فصار واحدا آخر قول شعری غیر معقول فإنه إن کان کل واحد  من الأمرین موجودا فهما اثنان متمیزان و إن کان أحدهما غیر موجود فقد بطل الذی کان موجودا.
و قال فی الفصل السادس من المقالة الخامسة من الفن السادس فی علم النفس من طبیعیات الشفاء و ما یقال من أن ذات النفس تصیر هی المعقولات فهو من جملة ما یستحیل عندی فإنی لست أفهم قولهم إن یصیر شی‏ء شیئا آخر و لا أعقل أن ذلک کیف یکون فإن کان بأن یخلع صورة ثم یلبس صورة أخرى و یکون هو مع الصورة الأولى شیئا- و مع الصورة الأخرى شیئا آخر فلم یصر بالحقیقة الشی‏ء الأول الشی‏ء الثانی بل الشی‏ء الأول قد بطل و إنما بقی موضوعه أو جزء منه و إن کان لیس کذلک فلننظر کیف یکون فنقول إذا صار الشی‏ء شیئا فأما أن یکون إذ هو قد صار ذلک الشی‏ء- موجودا أو معدوما فإن کان موجودا و الثانی الآخر أما أن یکون موجودا أیضا أو معدوما فإن کان موجودا فهما موجودان لا موجود واحد و إن کان معدوما فقد صار هذا الموجود شیئا معدوما لا شیئا آخر موجودا و هذا غیر معقول و إن کان الأول قد عدم فما صار شیئا آخر بل عدم هو و حصل شی‏ء فالنفس کیف یصیر صور الأشیاء و أکثر ما هو بین الناس فی هذا هو الذی صنف لهم إیساغوجی و کان حریصا على أن یتکلم بأقوال مخیلة شعریة صوفیة یقتصر منها لنفسه و لغیره على التخیل و یدل أهل التمیز فی ذلک کتبه فی العقل و المعقولات و کتبه فی النفس نعم إن صور الأشیاء یحل النفس- و یحلیه و یزینه و یکون النفس کالمکان لها بتوسط العقل الهیولانی و لو کانت النفس- صارت صورة شی‏ء من الموجودات بالفعل و الصورة هی الفعل و هی بذاتها فعل و لیس فی ذات الصورة قوة قبول شی‏ء «1» إنما قوة القبول فی القابل للشی‏ء وجب أن یکون النفس حینئذ لا قوة لها على قبول صورة أخرى و أمر آخر و قد نراها تقبل صورة أخرى غیر تلک الصورة فإن کان ذلک الغیر أیضا لا یخالف هذه الصورة فهو من العجائب- فیکون القبول و اللاقبول واحدا و إن کان یخالفه فیکون النفس لا محالة هی الصورة المعقولة قد صارت غیر ذاتها و لیس من هذا شی‏ء بل النفس هی العاقلة و العقل إنما نعنی به قوتها التی بها تعقل أو نعنی به صورة هذه المعقولات فی نفسها و لأنها فی النفس تکون معقولة فلا یکون العقل و العاقل و المعقول شیئا واحدا فی أنفسنا نعم هذا فی شی‏ء آخر یمکن أن یکون على ما سنلمحه فی موضعه و کذلک العقل الهیولانی- إن عنی به مطلق الاستعداد للنفس و هی باقیة فینا أبدا ما دمنا فی البدن و إن عنی بحسب شی‏ء شی‏ء فإن الاستعداد یبطل مع وجود الفعل انتهى قوله بألفاظه‏
 [مقدمة الجواب‏]
أقول و الذی یجب أن یعلم أولا قبل الخوض فی دفع ما ذکره الشیخ فی نفی الاتحاد بین الأمرین عاما و بین العاقل و المعقول خاصا أمران.
أحدهما أن الوجود فی کل شی‏ء هو الأصل فی الموجودیة و هو مبدأ شخصیته و منشأ ماهیته و أن الوجود مما یشتد و یضعف و یکمل و ینقص و الشخص هو هو- أ لا ترى أن الإنسان من مبدإ کونه جنینا بل نطفة إلى غایة کونه عاقلا و معقولا جرت علیه الأطوار و تبدلت علیه النشآت مع بقاء نحو وجوده و شخصیته.
و ثانیهما أن الاتحاد یتصور على وجوه ثلاثة- الأول أن یتحد موجود بموجود بأن یصیر الوجودان لشیئین وجودا واحدا و هذا لا شک فی استحالته لما ذکره الشیخ من دلائل نفی الاتحاد.
و الثانی أن یصیر مفهوم من المفهومات أو ماهیة من الماهیات عین مفهوم آخر- مغایر له أو ماهیة أخرى مغایرة لها بحیث یصیر هو هو أو هی هی حملا ذاتیا أولیا و هذا أیضا لا شک فی استحالته فإن المفهومات المغایرة لا یمکن أن تصیر مفهوما واحدا- أو یصیر بعضها بعضا بحسب المفهوم ضرورة أن کل معنى غیر المعنى الآخر من حیث المعنى مثلا مفهوم العاقل محال أن یصیر عین مفهوم المعقول نعم یمکن أن یکون وجود واحد بسیط یصدق علیه أنه عاقل و یصدق علیه أنه معقول حتى یکون الوجود واحدا- و المعانی متغایرة لا تغایرا یوجب تکثر الجهات الوجودیة.
و الثالث صیرورة موجود بحیث یصدق علیه مفهوم عقلی و ماهیة کلیة بعد ما لم یکن صادقا علیه أولا لاستکمال وقع له فی وجوده «1» و هذا مما لیس بمستحیل بل هو واقع فإن جمیع المعانی المعقولة التی وجدت متفرقة فی الجماد و النبات و الحیوان- یوجد مجتمعة فی الإنسان الواحد.
لا یقال هذه المعانی الحیوانیة و النباتیة و الجمادیة إنما وجدت فی الإنسان- بحسب کثرة قواه لا بحسب قوة واحدة.
لأنا نقول بل بحسب صورة ذاته المتضمنة لقواه فإن جمیع قوى الإنسان المدرکة و المحرکة یفیض على مادة البدن و مواضع الأعضاء عن مبدإ واحد بسیط هو نفسه و ذاته الحقیقیة و تلک القوى کلها فروع ذلک الأصل و هو حس الحواس‏ و عامل الأعمال کما أن العقل البسیط الذی أثبته الحکماء هو أصل المعقولات المفصلة- و سینکشف لک فی هذا الکتاب أن العقل الفعال فی أنفسنا هو کل الموجودات بمعنى أن ذاته بذاته مصداق حمل جمیع المعانی الکلیة التی تکون موجودة فی صور المکونات التی فی العالم و بالجملة فکون وجود أو موجود واحد هو بصدد الاستکمال بحیث یصدق علیه و یحمل على ذاته بذاته معنى من المعانی لم یکن صادقا محمولا على ذاته لیس بمستنکر کما قیل لیس من الله بمستنکر أن یجمع العالم فی واحد.
 [
الجواب عن الأدلة]
إذا تقرر هذا فلنرجع إلى الجواب عن احتجاجات الشیخ أما دلیله العام المذکور فی الإشارات فقوله إن کان کل واحد من الأمرین موجودا فهما اثنان متمیزان.
قلنا إن هذا غیر مسلم لجواز أن یکون مفهومات متعددة بحسب المعنى- موجودة بوجود واحد فإن الحیوان و الناطق معنیان متغایران یمکن انفکاک أحدهما عن الآخر و هما مع ذلک موجودان بوجود واحد فی الإنسان و کذا دلیله العام المذکور فی الشفاء فإن قوله إذا صار الشی‏ء شیئا آخر فإما أن یکون إذ هو قد صار ذلک الشی‏ء موجودا أو معدوما إلخ قلنا نختار أنه یکون موجودا و قوله فإن کان موجودا فالثانی الآخر إما أن یکون أیضا موجودا أو معدوما قلنا نختار أنه أیضا یکون حینئذ موجودا قوله فهما موجودان لا موجود واحد قلنا بل هما موجودان بوجود واحد و لا استحالة فی کون معانی متغایرة موجودة بوجود واحد و السند ما مر و لو کان یجب أن یکون لکل معنى وجود واحد حتى یستحیل کون معانی متغایرة لها وجود واحد فکیف یکون النفس الإنسانیة مع بساطته جوهرا موجودا- عالما قادرا محرکا سمیعا بصیرا حیا بل الذات الأحدیة الواجبیة التی هی مصداق جمیع المعانی الکمالیة و الصفات الحسنى الإلهیة بوجود واحد بسیط لا اختلاف حیثیة فیه بوجه من الوجوه أصلا.
و أما حجتاه الخاصتان بالعاقل و المعقول فالذی ذکره فی الإشارات من قوله- فلنفرض الجوهر العاقل عقل آ و کان هو على قولهم بعینه المعقول من آ فهل‏ هو حینئذ کما کان عند ما لم یعقل آ أو بطل منه ذلک.
قلنا نختار أنه لم یبطل کونه حینئذ عند ما عقل آ و اتحد به إلا ما هو من باب القصور و النقص کالصبی إذا صار رجلا فإنه لم یزل منه شی‏ء إلا ما هو أمر عدمی- کما اعترف به الشیخ فی فصل من إلهیات الشفاء عند ما یبین أقسام کون الشی‏ء من شی‏ء- حیث قال هناک إن کون الشی‏ء من الشی‏ء على وجهین أحدهما بمعنى أن یکون الأول إنما هو ما هو بأنه بالطبع یتحرک إلى الاستکمال بالثانی کالصبی إنما هو صبی لأنه فی طریق السلوک إلى الرجلیة مثلا فإذا صار رجلا لم یفسد و لکنه استکمل لأنه لم یزل عنه أمر جوهری و لا أیضا أمر عرضی إلا ما یتعلق بالنقص و بکونه بالقوة بعد ما إذا قیس إلى الکمال الآخر و الثانی بأن یکون الأول لیس طباعه أنه یتحرک إلى الثانی و إن کان یلزمه الاستعداد لقبول صورته لا من جهة ماهیته و لکن من جهة حامل ماهیته و إذا کان منه الثانی لم یکن من جوهره الذی بالفعل إلا بمعنى بعد و لکن کان من جزء جوهره و هو الجزء الذی یقارن القوة مثل الماء إنما یصیر هواء بأن یخلع عن هیولاه صورة المائیة و یحصل لها صورة الهوائیة و القسم الأول کما لا یخفى علیک یحصل فیه الجوهر الذی للأول بعینه فی الثانی و القسم الثانی لا یحصل الذی فی الأول بعینه للثانی بل جزء منه و یفسد ذلک الجوهر هذا کلامه بعینه و هو صریح فی أن کون الشی‏ء من شی‏ء قد یکون بحیث قد صار الشی‏ء الأول بعینه متحدا بالثانی و هو هو کما کان مع أمر زائد متحد معه فکیف ینکر هاهنا ما هو من قبیل القسم الأول من قسمی کون الشی‏ء من الشی‏ء قوله فإن کان کما کان فسواء عقل آ أو لم یعقلها قلنا لیس الأمر کما زعمه فإن ذلک إنما یلزم لو لم یصر ذاته بعینها مصداقا لمعنى کمالی لم یکن قبل هذا التعقل و العجب من الشیخ مع عظم شأنه و قدره حیث حکم بأن النفس الإنسانیة- من مبدإ کونها بالقوة فی کل إدراک حتى الإحساس و التخیل إلى غایة کونها عاقلا بالفعل فی أکثر المعقولات بل فی کلها کما هو شأن العقل البسیط لم یصر بحیث یصدق على ذاتها بذاتها شی‏ء من الأشیاء التی لم یکن صادقا علیها فی أوائل‏ الفطرة حتى کانت نفوس الأنبیاء ع و نفوس المجانین و الأطفال بل الأجنة فی بطون الأمهات فی درجة واحدة من تجوهر الذات الإنسانیة و حقیقتها و إنما الاختلاف فی عوارض غریبة لاحقة للوجود الذی لها نعم لو قیل «1» إن هذه الکمالات الوجودیة- کأصل الوجود مفهوماتها غیر مفهوم الإنسانیة و ماهیتها فذلک کما قیل بشرط أن یعلم أن زیادة الوجود على الماهیة کما ذکر مرارا لیست إلا بحسب التصور و المفهوم لا بحسب الحقیقة و الکون فإن الوجود هو الأصل فی التحقق و الماهیة تابعة له و قوله و إن کان بطل منه ذلک أبطل على أنه حال له و الذات باقیة فهو کسائر الاستحالات لیس على ما یقولون قلنا لم یبطل منه شی‏ء من مقوماته و لا من وجود ذاته إلا ما یتعلق بالنقص و العدم بأنه کان ناقص الجوهر فاشتد فی تجوهره و لیس هذا کسائر الاستحالات التی یقع فیها الانتقال من صفة وجودیة إلى ما یعانده کالماء إذا صار هواء و البارد إذا صار حارا و قوله و إن کان على أنه ذاته فقد بطل ذاته و حدث شی‏ء آخر لیس أنه صار شیئا آخر على أنک إن تأملت هذا أیضا علمت أنه یقتضی هیولى مشترکة و تجدد مرکب لا بسیط.
قلنا قد مر أن الذی قد بطل کان أمرا عدمیا من قبیل القوة و الاستعداد- على أن لنا أن نقول کما حققناه فی معنى کون الحرکة فی مقولة و أن أی المقولات یقع فیها الحرکة من إثبات فرد تدریجی الوجود لمقولة الکیف و الکم «2» بل الجوهر أیضا یجوز أن یکون ذات الشی‏ء بحیث یتجدد و یتطور فی نفس ذاته من غیر أن یبطل ذاتا و وجودا و یحدث شی‏ء آخر منفصل الوجود و الذات عنه بل کاشتداد الحرارة فی نفسها فإن ذات الحرارة لو کانت فی کل آن من الآنات المفروضة فی زمان حرکته الاشتدادیة موجودا بوجود آخر یلزم منه تتالی الآنات و ترکب المسافة و الحرکة من الغیر المنقسمات و هو محال قد علمت استحالته فی مباحث الجزء فلا محالة لتلک الحرارة الاشتدادیة وجود واحد مستمر و له فی کل جزء من أجزاء ذلک الزمان نوع آخر من الحرارة کما هو مذهبهم من أن مراتب الحرارة أنواع متخالفة کما بیناه و مع ذلک کلها موجودة بوجود واحد تدریجی فلیس بمحال کون معان مختلفة متحدة فی الوجود بمعنى أنها منتزعة مفهوما عن موجود واحد کما کانت منتزعة مفهوما عن موجودات کثیرة إنما المحال اتحاد حرارة أخرى بالفعل مع حرارة أخرى بالفعل و کذا صیرورة ذاتین موجودتین ذاتا واحدة موجودة لأن کل وجود بالفعل له تعین خاص بالفعل و مع محال أن یصیر هذا التعین بعینه ذلک التعین بعینه و کذا کل ماهیة لها حد خاص و مفهوم محصل یمتنع أن یصیر ماهیة أخرى لها حد آخر و مفهوم محصل آخر لامتناع أن یحمل على مفهوم الإنسان- مفهوم الفرس حملا ذاتیا أولیا کیف و کل ماهیة من حیث هی لیست إلا هی- و أما کون الماهیات المتعددة بحسب المعنى و المفهوم موجودة بوجود واحد فلیس ذلک مما یمتنع عند العقل کلیا إلا ما ساق إلیه البرهان فی بعض الماهیات کماهیة الواجب و الممکن و القوة و الفعل و الجوهر و العرض و کالمتضادین و الأعدام و الملکات و نحوها مما قام البرهان على أنها لا یمکن أن تکون موجودة بوجود واحد.
و قوله هذا أیضا یقتضی هیولى مشترکة.
قلنا نحن لا نمنع أن یکون لمثل هذا الشی‏ء المتبدل وجود ذاته فی الاستکمال تعلق ما بجوهر مادی واقع تحت الحرکة و الزمان «1» و أما قوله و تجدد مرکب لا بسیط فغیر مسلم إن أراد به المرکب الخارجی فی ذاته لأن کل وجود صوری لا ترکیب فیه خارجا سیما الذی قد تهیأ لأن یصیر عقلا بالفعل و إن أراد به النوع الخارجی المرکب منه و من المادة البدنیة فهو مسلم و لا انتقاض فی ذلک و أما الحجة الخاصة الأخرى التی ذکرها فی الشفاء فقوله لو کانت النفس- صارت صورة شی‏ء من الموجودات بالفعل إلى قوله و قد نراها تقبل صورة أخرى.
قلنا فی تحقیق هذا المقام إن النفس فی أول ما أفیضت على مادة البدن کانت صورة شی‏ء من الموجودات الجسمانیة «2» فکانت کالصور المحسوسة و الخیالیة لم یکن فی أول الکون صورة عقلیة لشی‏ء من الأشیاء کیف و من المحال أن یحصل من صورة عقلیة و مادة جسمانیة نوع جسمانی واحد کالإنسان بلا توسط استکمالات و استحالات لتلک المادة إذ ذاک عندی من أمحل المحالات و أشنع المحذورات فإن وجود المادة القریبة للشی‏ء من جنس وجود صورته إذ نسبة الصورة إلیها نسبة الفصل المحصل- للجنس القریب إلیه فالنفس فی أوائل الفطرة کانت صورة واحدة من موجودات هذا العالم إلا أن فی قوتها السلوک إلى عالم الملکوت على التدریج فهی أولا صورة شی‏ء من الموجودات الجسمانیة و فی قوتها قبول الصور العقلیة و لا منافاة بین تلک الفعلیة- و هذا القبول الاستکمالی لما مر من حکایة قول الشیخ إن وجود الشی‏ء من شی‏ء قد یکون بطریق الاستکمال و هو سلوک السلسلة الطولیة و قد یکون بطریق التفاسد و هو سلوک السلسلة العرضیة کما فی المعدات فالصورة النفسانیة الحسیة کمادة للصورة الخیالیة و هی کمادة للصور العقلیة و هو أول ما یفیض علیها أوائل المعقولات ثم ثوانیها على التدریج صائرة إیاها کما أشرنا إلیه و سنزیدک إیضاحا أیضا.
فقوله لیس فی ذات الصورة قوة قبول شی‏ء.قلنا لا نسلم بل جهة القبول مضمنة فیها تضمن الفصل فی النوع البسیط «1».قوله إنما القبول فی القابل للشی‏ء.قلنا  نعم و لکن بمعنى آخر القبول قد یعنى الانفعال التجددی الذی یکون لحدوث مقابل الشی‏ء کالمتصل إذا صار منفصلا و الماء إذا صار هواء و أما القبول بمعنى قوةالاستکمال  فالشی‏ء الصوری یمکن اتصافه بالقبول بهذا المعنى بالقیاس إلى اشتداده فی الکمالیة و بالجملة القبول قد یکون مصحوبا للعدم الخارجی للشی‏ء و قد یکون مصحوبا للعدم الذهنی له و الأول شأن المادة القابلة «2» و الثانی شأن‏ الصورة المتعلقة بها «1» و أما الصورة البریئة من کل الوجوه من المادة فلیس فیها کمال منتظر.
و قوله فإن کان ذلک الغیر أیضا لا یخالف هذه الصورة فهو من العجائب فیکون القبول و اللاقبول واحدا.
قلنا ذلک الغیر لیست غیریته بأنه بالفعل صورة موجودة بل هو معنى متحد مع هذه الصورة النفسانیة اتحادا فی الوجود لأن المراد من صورة الشی‏ء عندنا هو وجود ذلک لا المفهوم الکلی منه فالصورة لکل شی‏ء لا تکون إلا واحدة بسیطة لکن قد تکون مصداقا لمعان کثیرة کمالیة و قد لا تکون کذلک کما أنه قد یکون وجودا قویا شدیدا و قد یکون وجودا ضعیفا ناقصا فالنفس إذا قویت تصیر مصداقا لمعان کثیرة کل منها إذا وجدت على حدة فربما کانت صورة لنوع ناقص جسمانی کالفرس المعقول و الشجر المعقول و الأرض المعقولة فلکل منها صورة جسمانیة إذا وجدت فی‏ الخارج أعنی فی المواد الجسمانیة کانت صورة نوع مادی و إذا وجد المعقول منها فی عالم العقل کان متحدا بجوهر عقلی لا یلزم أن یکون صورة ذاته «1» أو نحو وجوده العقلی بل معنى من المعانی المتحدة به على وجه أعلى و أشرف من اتحاده بالصور الجسمانیة الدنیة لأن الوجود العقلی وجود عال شریف قد یوجد منه جمیع المعقولات بوجود واحد لا کوحدة الأجسام و ما فیها.
و قوله و إن کان یخالفه فیکون النفس لا محالة إن کانت هی الصورة المعقولة- قد صارت غیر ذاتها.
قلنا لم تصر غیر ذاتها بالعدد بل غیرها بالکمال و النقص أو بالمعنى و المفهوم مع بقاء الوجود الذی کان و قد صار أفضل و أشرف.
و قوله بل النفس هی العاقلة و العقل إنما یعنی به قوتها التی بها یعقل أو یعنی به صور هذه المعقولات و لأنها فی النفس تکون معقولة فلا یکون العقل و العاقل و المعقول شیئا واحدا.
قلنا أما کون المعنى الأول هو العقل بالفعل فغیر صحیح لأن تلک القوة سواء أرید بها استعداد النفس «2» أو ذاتها الساذجة «3» عن صور المعقولات فی‏ ذاتها محال أن یکون هی بعینها عین العقل بالفعل و إلا لکان شی‏ء واحد بعینه قوة و فعلا جهلا و علما و أما کون تلک الصور المعقولة عقلا بالفعل على ما زعمه من أن الجوهر النفسانی الذی هو صورة کمالیة للحیوان البشری اللحمی کان عاقلا لها و هو فی ذاته کما قلنا فذلک قد کشفنا عن استحالته و أوضحنا فساده من الجانبین- أما من جانب النفس فالذات العاریة من العقل کیف تعقل صور عقلیة مباینة الذات لها خارجة الوجود عن وجودها و أیضا ثبوت الشی‏ء للشی‏ء مطلقا کما أنه فرع لثبوت المثبت له إن ذهنا فذهنا و إن خارجا فخارجا لأن البرهان قائم على أن ما هو معدوم فی ظرف من ظروف الوجود أو فی عالم من العوالم فلا یمکن وجود شی‏ء آخر له فی ذلک الظرف أو العالم ضرورة أن الموجود لا یوجد إلا لموجود لا لمفقود فکذلک حال الوجود العقلی للموجود فی عالم العقل فإن الوجود العقلی الصرف المجرد عن المواد و علائقها لا یمکن ثبوته لشی‏ء إلا و له فی ذاته مثل هذا الوجود بأن یکون عقلا و معقولا بالفعل فالمعقول بالفعل لا یثبت إلا لمعقول بالفعل کما أن المعقول بالقوة و هو الصور المادیة لا یثبت إلا لمعقول بالقوة کالأجسام و المقادیر التی هی ذوات الأوضاع فقد علم أن النفس قبل أن تصیر ذاتا معقولة لا یثبت لها صورة من العقلیات- اللهم إلا بالقوة کالصور الخیالیة و الوهمیة قبل أن أشرقت على الخیال و على تلک الصور نور العقل الفعال و أما من جانب تلک الصور العقلیة «1» فقد علمت بالبرهان الذی ألهمنی الله به أن تلک الصور بعینها مع قطع النظر عن جمیع ما عداها هی معقولة الهویات فی ذاتها سواء وجد شی‏ء فی العالم عقلها أو لم یوجد فإذا کانت هی مع قطع النظر عن تلک النفس معقولة فهی فی حد ذاتها عاقلة لذاتها فلا محالة کانت النفس متحدة بها و هذا هو مطلوبنا.
و اعلم أن الشیخ مع کونه من أشد المصرین فی إنکار القول باتحاد العاقل‏ و المعقول فی سائر کتبه لکن قد قرر هذا المطلب فی کتابه الموسوم بالمبدإ و المعاد و أقام الحجة علیه فی الفصل المترجم بأن واجب الوجود معقول الذات و عقل الذات و لست أدری هل کان ذلک على سبیل الحکایة لمذهبهم لأجل غرض من الأغراض أو کان اعتقادیا له لاستبصار وقع له من إضاءة نور الحق من أفق الملکوت و الذی ذکره المحقق الطوسی فی شرح الإشارات اعتذارا عن إیراد الشیخ هذا المذهب هناک و قد سماه هذا الشارح حین شرحه لهذا المقام مذهبا فاسدا أنه قد صنف هذا الکتاب تقریرا لمذهب المشائین من أصحاب المعلم الأول فی المبدإ و المعاد حسب ما اشترطه فی صدر تصنیفه ذلک فعلى ما ذکره یعلم أن تحقیق هذا المطلب الشریف کان وقفا على الأوائل- لم یتوارثه أحد من علماء النظار أولی البحث و الاعتبار لو لا أن من الله به على بعض الفقراء المساکین و شرح صدره بقوة العزیز الحکیم‏

ج 3فصل (9) فی قول المتقدمین أن النفس إنما تعقل باتحادها بالعقل الفعال «1»
 [أدلة المانعین عن ذلک‏]
إن المشهور فی کتب القوم من حکماء الدورة الإسلامیة أن هذا المذهب أیضا کالمذهب الأول باطل فإنه أیضا قریب المأخذ من الأول فذکروا فی بطلانه أن العقل الفعال إما أن یکون شیئا واحدا بعیدا عن التکثر أو یکون ذا أجزاء و أبعاض- و الأول یوجب أن یکون المتحد به لأجل تعقل واحد عقل جمیع المعقولات لأن المتحد بالعاقل و لجمیع المعقولات لا بد و أن یعقل کل ما یعقله و إن کان یتحد ببعضه لا بکله وجب أن یکون للعقل الفعال بحسب کل تعقل ممکن الحصول للإنسان جزء لکن التعقلات التی یقوى البشر علیها غیر متناهیة فإذن العقل الفعال مرکب من أجزاء مختلفة الحقائق غیر متناهیة لأن المعقولات المختلفة الحقائق غیر متناهیة- ثم کل من تلک المعقولات یمکن حصولها للأنفس الغیر المتناهیة فیکون تعقل زید مثلا للسواد مثل تعقل عمرو فإذن یکون للعقل الفعال بحسبها أجزاء غیر متناهیة- متحدة بالنوع لا مرة واحدة بل مرارا غیر متناهیة کل منها غیر متناهیة متحدة بالنوع- و هذا مع ما فیه من المحالات یلزمه محال من جهة أخرى و هو أن تلک المتحدات بالنوع لا یتمایز بالماهیة و لوازمها بل بالعوارض الممکنة الافتراق و ذلک لا یجوز إلا بسبب المادة و العقل الفعال مجرد عنها فأجزاؤه أولى بالتجرد فهی غیر متمایزة بالعوارض فهی غیر متکثرة فالعقل الفعال بسیط و قد فرض مرکبا هذا خلف فالقول باتحاد النفس بالعقل الفعال محال هذا ما ذکره المتأخرون فی کتبهم مطبقین على بطلان هذا المذهب و إلیه أشار الشیخ فی الإشارات بعد حکایة هذا المذهب بقوله و هؤلاء بین أن یجعلوا العقل الفعال متجزیا قد یتصل منه شی‏ء دون شی‏ء أو یجعلوا اتصالا واحدا به یجعل النفس کاملة واصلة إلى کل معقول.
 [
تحقیق الأمر]
أقول هذا المذهب کالذی قبله لما کان منسوبا إلى العلماء الفاضلین المتقدمین فی الحکمة و التعلیم لا بد و أن یکون له وجه صحیح غامض یحتاج تحقیقه إلى بحث شدید و تفحص بالغ مع تصفیة للذهن و تهذیب للخاطر و تضرع إلى الله تعالى و سؤال التوفیق و العون منه و قد کنا ابتهلنا إلیه بعقولنا و رفعنا إلیه أیدینا الباطنة- لا أیدینا الداثرة فقط و بسطنا أنفسنا بین یدیه و تضرعنا إلیه طلبا لکشف هذه المسألة و أمثالها طلب ملتجى‏ء ملجأ غیر متکاسل حتى أنار عقولنا بنوره الساطع و کشف عنا بعض الحجب و الموانع فرأینا العالم العقلی موجودا واحدا یتصل به جمیع الموجودات التی فی هذا العالم و منه بدؤها و إلیه معادها و هو أصل المعقولات و کل الماهیات- من غیر أن یتکثر و یتجزى و لا أن ینقص بفیضان شی‏ء منه و لا أن یزداد باتصال شی‏ء إلیه لکن موضع إثبات هذا الجوهر و أحکامه لیس هاهنا بل سیأتی من ذی قبل أن شاء الله تعالى و الذی یلیق أن یذکر هاهنا ما یسکن به صولة إنکار المنکرین- لاتصال النفس بذلک العالم فی إدراک کل معقول و یضعف به شدة استبعادهم إیاه- عن سنن الصواب أمور ثلاثة.
أحدها أنه قد مر أن النفس إذا عقلت شیئا صارت عین صورته العقلیة و قد فرغنا من إثباته بالبرهان و حللنا الشکوک التی فیه.
و ثانیها أن العقل هو کل الأشیاء المعقولة و البرهان علیه مما أقمناه فی موضع آخر و معنى کونه کل الأشیاء المعقولة لیس أن تلک الأشیاء بحسب أنحاء وجوداتها الخارجیة الخاصة بواحد واحد صارت مجتمعة واحدة «1» فإن ذلک ممتنع فإن الماهیة الفرسیة لها وجود فی الخارج مع مقدار و وضع و لون و مادة و لها أیضا وجود عقلی خاص مع لوازم و صفات عقلیة یتحد معه فی ذلک الوجود الخاص کاتحاد الماهیة و أجزائها بالوجود الخاص بها إما خارجا أو عقلا فکما أن لکل من النوعیات وجودا حسیا یتمایز به أشخاصها و یتزاحم تزاحما مکانیا کذلک لکل منها وجود عقلی مخصوص- یتباین بحسبه أنواعها و یتزاحم فی ذلک الوجود فیکون المعقول من الفرس شیئا و من النبات شیئا آخر جعلا و وجودا بل المراد أنه یمکن أن یکون جمیع الماهیات- الموجودة فی الخارج بوجودات متعددة متکثرة کثرة عددیة و فی العقل بوجودات متکثرة کثرة عقلیة موجودا بوجود واحد عقلی هو بعینه جامع جمیع المعانی مع بساطته و وحدته.
و ثالثها أن وحدة العقول لیست وحدة عددیة هی مبدأ الأعداد کوحدة الجسم‏ مثلا و وحدة السواد و اللون أو الحرکة بل وحدة أخرى و الفرق بین الوحدتین فی المعنى أن هذه الوحدة التی فی الأجسام و الجسمانیات إذا فرض أن یوجد أخرى مثلها صار المجموع أعظم أو أکثر فإن الجسمین أعظم من جسم أحدهما و کذا السوادان لیس حالهما کحال أحدهما بل لا بد و أن یحصل تغیر فی الوجود و هذا بخلاف الوحدة العقلیة فإنا لو فرضنا وجود ألف عقل مثل هذا العقل لکان حال الواحد فی وحدته کحال ذلک الألف فی کثرته مثال ذلک معنى الإنسان بما هو إنسان فإنک إذا أضفت إلى هذا المعنى معنى هو مثله فی الحقیقة مع قطع النظر عن العوارض اللاحقة من الوضع و المقدار و الأین و غیرها فلم تجده فی ثانویته و لا المجموع فی اثنینیته إلا کما تجد الأول فی وحدته و لذلک قال صاحب التلویحات- صرف الوجود الذی لا أتم منه کلما فرضته ثانیا فإذا نظرت إلیه فإذن هو هو إذ لا میز فی صرف شی‏ء «1» فإذا تقررت هذه المسائل فنقول إن النفس الإنسانیة من شأنها أن تدرک جمیع الحقائق و تتحد بها کما علمت و من شأنها أن یصیر عالما عقلیا فیه صورة کل موجود عقلی و معنى کل موجود جسمانی فإذا فرض أن‏ یوجد فیها معنى من المعانی العقلیة کمعنى الفرس العقلی مثلا و قد قررنا أن المعنى العقلی الواحد بالحد و النوع دون التشخص و الوضع لا یمکن تعدده بالوجود إلا بأمر زائد على معناه و حده فالفرس العقلی الموجود فی العقل الفعال و الفرس العقلی الموجود فی النفس عند ما صارت به عقلا بالفعل لا یمکن تعددهما من جهة المعنى و الحقیقة بل من جهة زائدة على الحد و الحقیقة فما فی النفس و ما فی العقل الفعال- من الفرس العقلی أمر واحد و قد مر أیضا أن النفس یتحد بکل صورة عقلیة أدرکتها فیلزم اتحادها بالعقل الفعال الموجود فیه کل شی‏ء من هذه الجهة لا من جهة ما لم یدرکه من العقلیات فکل نفس أدرکت صورة عقلیة اتحدت مع العقل الفعال اتحادا عقلیا من تلک الجهة و لما کانت المعانی کلها موجودة فیه بوجود واحد من غیر لزوم تکثر فیه و هی مما یصح أن یوجد فی أشیاء متفرقة فکما لا یلزم من صیرورة تلک المعانی متکثرة الوجود فی مواطن أخرى غیر موطن العقل کون العقل منقسما متجزیا بسبب وجودها فیه وجودا مقدسا من شوب الکثرة و التجزئة- فکذلک لا یلزم من اتحاد النفوس الکثیرة من جهة کمالاتها المتفننة بالعقل الفعال- تجزیة العقل الفعال و لا یلزم أیضا نیل کل من النفوس کل کمال و کل فضیلة- و من أشکل علیه ذلک فلذهوله عن کیفیة الوحدة العقلیة «1» و قیاسها على الوحدة العددیة أ لا ترى أن الإنسان متحد بالحیوان و کذا الفرس و الثور و الأسد کل منها متحد مع ما یتحد به الآخر ثم لا یلزم من ذلک اتحاد بعضها مع بعض و ذلک لأن وحدة الحیوان وحدة مرسلة و الوحدة المرسلة یمکن فیها اتحاد المختلفات بحسبها و کذلک‏ حال الوحدة العقلیة لا یأبى عن اجتماع المعانی الکثیرة فیها فالحیوان العقلی کالحیوان المرسل قد یتحد فیه الحیوانات العقلیة
 [کلام المعلم الأول و الجواب عنه‏]
قال المعلم الأول فی کتاب أثولوجیا إن العالم الأعلى هو الحی التام- الذی فیه جمیع الأشیاء لأنه أبدع من المبدع الأول التام ففیه کل نفس و کل عقل- و لیس هناک فقر و لا حاجة البتة لأن الأشیاء التی هناک کلها مملؤة غنى و حیاة- کأنها حیاة تغلی و تفور و جرى حیاة تلک الأشیاء إنما ینبع عن عین واحدة لا کأنها حرارة واحدة أو ریح واحدة فقط بل کلها کیفیة واحدة فیها کل کیفیة یوجد فیها کل طعم.
و قال فیه أیضا إن اختلاف الحیاة و العقول هاهنا إنما هو لاختلاف حرکات الحیاة و العقل فلذلک کانت حیوانات مختلفة و عقول مختلفة إلا أن بعضها أنور و أشرف من بعض «1» و ذلک أن من العقول ما هو قریب من العقول الأولى فلذلک صار أشد نورا من بعض و منها ما هو ثان و ثالث فلذلک صار بعض العقول التی هاهنا إلهیة- و بعضها ناطقة و بعضها غیر ناطقة لبعدها عن تلک العقول الشریفة و أما هناک فکلها ذو عقل فلذلک صار الفرس عقلا و عقل الفرس فرس و لا یمکن أن یکون الذی یعقل الفرس إنما هو عاقل الإنسان فإن ذلک محال فی العقول الأولى «2» فالعقل الأول إذا عقل شیئا کان هو و ما عقله شیئا واحدا «1» فالعقل الأول لا یعقل شیئا لا عقل له بل یعقله عقلا نوعیا و حیاة نوعیة و کانت الحیاة الشخصیة لیست بعادمة للحیاة المرسلة فکذا العقل الشخصی لیس بعادم للعقل المرسل فإذا کان هذا هکذا فالعقل الکائن فی بعض الحیوان لیس هو بعادم للعقل الأول و کل جزء من أجزاء العقل- هو کل ما یتجزى به عقل فالعقل للشی‏ء الذی هو عقل له هو الأشیاء کلها بالقوة- فإذا صار بالفعل صار خاصا و أخیرا بالفعل و إذا کان أخیرا بالفعل صار فرسا أو شیئا آخر من الحیوان و کلما سلکت الحیاة إلى أسفل صار حیا دنیا خسیسا و ذلک أن القوى الحیوانیة کلما سلکت إلى أسفل ضعفت و خفیت بعض أفاعیلها فحدث منها حیوان دنی ضعیف فإذا صار ضعیفا احتال له العقل الکائن فیحدث الأعضاء القویة بدلا عن قوته کما لبعض الحیوان أظفار و مخالب و لبعضه قرون و لبعضه أنیاب- على نحو نقصان الحیاة فیه انتهى کلام المعلم الأول.
و لا یخفى ما فیه من التحقیق و التنویر لجمیع ما ادعیناه و قررناه فی هذا الفصل إلا أن فی بعض کلماته ما یحتاج إلى التفسیر حذرا من غفلة الناظرین فیها عنه و عدم تفطنهم به فقوله لاختلاف حرکات الحیاة و العقل أراد به اختلاف الجهات العقلیة التی فی العقول الأولى کالوجوب و الإمکان و الشدة و الضعف و اختلاف الحیثیات الناشئة من جهة قربها و بعدها عن المبدع الأول فالمراد بالحرکة هاهنا هو الصدور لا التغیر بوجه من الوجوه و المراد من اختلاف الحرکة إما بحسب الکیف فکالوجوب و الإمکان و الوجود و الماهیة فإن الصادر من جهة الوجوب و الوجود غیر الصادر من جهة الماهیة و الإمکان و أما بحسب الکم فکدرجات القرب و البعد من الأول فالصادر عن العقل العالی «1» القریب من الأول تعالى أشرف من الصادر عن العقل النازل کما یستفاد من کلامه و قوله إن من العقول ما هو قریب من العقول الأولى أراد بالعقول الأولى العقول المفارقة بالفعل و بالأخرى ماهیات الأنواع و صورتها العقلیة و هی على درجات متفاوتة أوائلها کالعقول الإنسانیة و ثوانیها کالحیوانیة و ثوالثها کالنباتیة و قوله فإن ذلک محال فی العقول الأولى- أراد بها العقول التی فی الطبقة النازلة «2» و قوله و کانت الحیاة الشخصیة لیست بعادمة للحیاة المرسلة أراد بالحیاة المرسلة ماهیة الحیوان و بالعقل المرسل صورتها «3» العقلیة الکلیة و کل منهما بحسب الاعتبار غیر العقل بالفعل الأول مع اتحادهما معه فی الوجود فالماهیة من حیث هی یحتمل الکلیة و الجزئیة و التجرد و التجسم- و غیر ذلک من الأحوال و أما صورتها العقلیة فهی لا محالة أمر مشترک بالفعل بین أفرادها الموجودة أو المفروضة و أما العقل بالفعل الأول فهو نحو وجودها و تعینها العقلی الجامع لکثیر من التعینات و قوله فالعقل الکائن فی بعض الحیوان لیس بعادم للعقل الأول أراد بالعقل الکائن فیه ماهیته العقلیة و هی لیست بعادمة للعقل المفارق لأنها متحدة به «1» و قوله و کل جزء من أجزاء العقل أراد به الأجزاء المعنویة التی هی قد تکون صورا عقلیة للأجزاء الخارجیة کالأعضاء المعقولة للحیوان- المعقول من رأس معقول و ید معقولة و رجل معقولة فإن حکم کل منها کحکم المجموع فی أنحاء الوجود کالمعقولیة و المحسوسیة «2» و قوله فالعقل للشی‏ء الذی هو عقل له هو الأشیاء کلها بالقوة فإذا صار بالفعل صار خاصا و أخیرا بالفعل اعلم أن المراد بالقوة و الفعل هاهنا غیر المعنى المشهور فإن المراد هاهنا بالقوة کون الوجود الواحد مشتملا بوحدته على ماهیات و معان کثیرة قد یوجد فی موطن آخر بوجودات متعددة کثیرة کالسواد الشدید إذا قیل أنه هو السوادات الضعیفة بالقوة لیس المراد أنه یمکن أن ینقسم إلیها أو یستعد لأن یقبل تلک الأمور و ینفعل عنها بل هناک وجود صرف بلا عدم و فعلیة محضة بلا قوة کما قررناه و کذا المراد بالفعل هاهنا- لیس ما یقابل القوة بالمعنى المصحوب للعدم بل المراد الإیجاد للشی‏ء الجسمانی المتخصص بالصفات المادیة و باقی ألفاظه واضحة لا یحتاج إلى الشرح بعد ما تقدم من الأصول المذکورة

ج 3فصل (19) فی الإشارة إلى إثبات القوة القدسیة
اعلم أن مبدأ العلوم کلها من عالم القدس لکن الاستعدادات للنفوس متفاوتة- و عند تمام الاستعداد لا فرق فی الإفاضة بین الأولیات و الثوانی فحال الإنسان فی إدراک الأولیات کحاله بعد التفطن للحدود الوسطى فی إدراک النظریات فی أنها کأنها تحصل بلا سبب و وجود الشی‏ء بلا سبب محال لکن السبب قد یکون ظاهرا مکشوفا و قد یکون باطنا مستورا و الملقى للعلوم على النفوس المستعدة هو بالحقیقة سبب مستور عن الحواس معلم شدید القوى بالأفق الأعلى و فعله فی النفوس فی غایة الخفاء- و لکن قد یبرز من الباطن إلى الظاهر و قد یبرز من مکمن الغیب إلى عالم الشهادة و الأول کما للأنبیاء و الثانی کما للأولیاء علیهم السلام أجمعین و أما هذه الأسباب الظاهرة کالبحث و التکرار و السماع من معلم بشری فهی معدات لیست بموجبات و لذلک قد یختلف و قد یتخلف و بیان ذلک أن کل انتقال من الأولیات إلى النظریات إما أن یکون بتعلیم معلم بشری أو لا یکون فإن کان بتعلیم معلم کذلک فلا بد و أن ینتهی بالأخرة- إلى ما لا یکون ذلک من هذا السبیل بل یناله من ذاته و إلا لتسلسل التعلیم و التعلم «1» إلى غیر النهایة «1» و لأن کل من مارس علما من العلوم و خاض فیه و داوم على مواظبته و مزاولته لا بد و أن یستخرج بنفسه ما لم یسبقه إلیه متقدموه و أستادوه قل ذلک أو کثر فإن باب الملکوت غیر مسدود على أحد إلا لمانع من نفسه و حجاب من غلظة طبعه فبقدر سعیه و حرکة باطنه یتلطف ذهنیة قلبه و مقدحة طبعه و یستعد کبریت نفسه لأن ینقدح فیه شعلة من نار الملکوت أو نور من أنوار الجبروت- و کیف لا و قد بینا من قبل أن الإحساس بالجزئیات سبب لاستعداد النفس لقبول التصورات الکلیة و عرفت أن حصول التصورات المتناسبة سبب لحکم الذهن بثبوت أحدهما للآخر فکثیرا ما یقع للذهن التفات إلى تصور محمول بسبب الإحساس بجزئیاته عند استحضار تصور موضوعه و عند ذلک یترتب علیه لا محالة الجزم بثبوت ذلک المحمول لذلک الموضوع من غیر استفادة ذلک عن معلم أو روایة أو سماع من شیخ أو شهادة عدل أو تواتر فظهر أن الإنسان یمکنه أن یتعلم من نفسه و کلما کان کذلک فإنه یسمى حدسا و هذا الاستعداد القریب یتفاوت فی أفراد الناس- فرب إنسان بالغ فی جمود القریحة و خمود الفطنة بحیث لو أکب طول عمره على مسألة واحدة تعذر علیه تحقیقها و انصرف عنها بدون مطلوبه و رب إنسان یکون بضد ذلک حتى إنه لو التفت ذهنه إلیه أدنى لفتة حصل له ذلک ثم لما کانت الدرجات متفاوتة و القلوب مختلفة صفاء و کدورة و قوة و ضعفا فی الذکاء و کثرة و قلة فی الحدس فلا یبعد فی الطرف الأعلى وجود نفس عالیة شدیدة قویة الاستنارة من نور الملکوت سریعة قبول الإفاضة من منبع الخیر و الرحموت فمثل هذا الإنسان یدرک لشدة استعداده أکثر الحقائق فی أسرع زمان فیحیط علما بحقائق الأشیاء من غیر طلب منه و شوق بل ذهنه الثاقب یسبق إلى النتائج من غیر مزاولة لحدودها الوسطى- و کذلک من تلک النتائج إلى أخرى حتى یحیط بغایات المطالب الإنسانیة و نهایات الدرجات البشریة و تلک القوة تسمى قوة قدسیة و هی فی مقابلة الطرف الأدنى من أفراد الناس و مخالفتها لسائر النفوس بالکم و الکیف أما الکم فلکونه أکثر استحضارا للحدود الوسطى و أما الکیف فمن وجوه أحدها أنها أسرع انتقالا من معقول إلى معقول و من الأوائل إلى الثوانی و من المبادی إلى الغایات- و ثانیها أنها تدرک العقلیات الصرفة من حیث إنیاتها و هویاتها لا من حیث مفهوماتها و ماهیاتها العامة فإن الوصول إلى حقائق تلک المعقولات هی العمدة فی الإدراک دون المعارف الکلیة «1» و إن کانت هی أیضا وسیلة إلى ذلک الوصول إذا استحکمت و رسخت أصول معانیها فی النفس و لذلک قیل المعرفة بذر المشاهدة
و ثالثها أن سائر النفوس تعین المطالب أولا ثم تطلب الحدود الوسطى المنتجة لها- و أما النفس القدسیة فیقع الحد الوسط لها فی الذهن أولا و یتأدى الذهن منه إلى النتیجة المطلوبة فیکون الشعور بالحدود الوسطى مقدما على الشعور بالمطالب کما هو علیه الأمر فی نفسه فی ذوات المبادی اللمیة

ج 3فصل (20) فی أن العلم بالعلة یوجب العلم بالمعلول من غیر عکس «1»
أما المطلب الأول‏
فلأن العلة إما أن تکون علة لذاتها أو لا تکون علة لذاتها- فإن لم تکن علة لذاتها بل تحتاج فی تأثیرها إلى انضمام قید آخر فلم تکن هی العلة بالحقیقة بل العلة بالحقیقة هی ذلک المجموع ثم الکلام فی ذلک المجموع کالکلام فی الأول إلى أن ینتهی إلى شی‏ء هو لذاته یکون مقتضیا للمعلول فمن عرف ذلک الشی‏ء لا بد و أن یعرف منه أنه لذاته علة لذلک المعلول فإن ذاته إذا کانت لذاتها لا لغیرها علة لذلک المعلول فمن علمها على ما هی علیه وجب أن یعلمها على الجهة التی بها یوجب المعلول و متى علم منها أنه علة لذلک المعلول وجب أن یحصل العلم له بذلک المعلول لأن العلم بأحد المضافین على الجهة الموقعة للإضافة یوجب العلم بمضاف آخر «1» هذا ما یستفاد من کتب القوم.
أقول التحقیق فی هذا المقام أن العلة قسمان علة هی بماهیتها موجبة للمعلول کالأربعة للزوج و المثلث لذی الزوایا و مثل هذه العلة متى علمت ماهیتها- علم لازمها لا محالة إذ اللازم لازم لذاتها و ماهیتها من حیث هی هی و علة لیست هی بماهیتها موجبة للمعلول بل إما بوجودها الذهنی أو بوجودها الخارجی و مثل تلک العلة لا یکفی العلم بنفسها لإیجاب العلم بمعلولها و أیضا العلم بها و بکونها موجودة على الوجه العام فی الموجودیة لا یجب أن یؤدی إلى العلم بمعلولها لأن الجهة المقتضیة للمعلول- لیست هی نفس ماهیتها و لا مطلق وجودها بل خصوص وجودها و تشخصها فما لم یعلم ذلک الوجود بخصوصه لا یلزم منه العلم بمعلوله و قد علمت أن الاطلاع على نحو من الوجود بهویته لا یمکن إلا بأن یتحد العالم به أو بما هو محیط به «2» و مبدأ له فعند ذلک یکون العلم بمعلوله نفس وجود معلولة کما أن العلم بوجود تلک العلة نفس وجودها فإذا علم أحد علة من العلل على الوجه الذی ذکرناه- فلا بد أن یعلم معلولها و من معلولها معلول معلولها و هکذا إلى آخر معلولاتها لو کانت و على هذا اندفع ما ذکره الفخر الرازی فی بعض کتبه أن قول الحکماء- إن العلم بالعلة یقتضی العلم بالمعلول إن أرید به أن العلم بماهیة العلة یوجب العلم بمعلولها فذلک إنما یصح فیما إذا کان المعلول من لوازم ماهیة علته «1» و إن أرید به أن العلم بالعلة من حیث هی علة یوجب العلم بالمعلول من حیث هو معلول- فذلک و إن کان حقا لکنه عدیم الفائدة فإن المتضایفین معان فی التعقل لا تقدم لأحدهما على الآخر أی متضایفین کانا «2» و لا خصوصیة لهذا الحکم بالعلة و المعلول و إن أرید به أن العلم بالعلة بجمیع وجوهها و حیثیاتها یقتضی العلم بالمعلول فهذا أیضا عدیم الجدوى فإن العلم بکل مجموع یتضمن العلم بجزء من أجزائه «3» فإذا علم جمیع جهات العلة «4» فمن جملة تلک الجهات کونها موجبة لهذا المعلول و الکل غیر مقتض لجزئه بل العکس أولى «5» لأن الجزء من أسباب‏ تحقق الکل بوجه و وجه الاندفاع ظاهر مما ذکرنا فإن مرادهم لیس شیئا مما ذکره بل أن العلة إذا علمت بحقیقتها التی هی بها علة تقتضی وجوب وجود المعلول «1» حتى إن حالها مع تلک الحقیقة بالقیاس إلى وجوب وجود معلولها کحال الماهیة بالقیاس إلى لازمها من حیث هی هی فظهر أن کل معلول من لوازم ماهیة علته سواء کانت تلک الماهیة عین الوجود أو غیر الوجود أو مع الوجود فإن قلت ذات العلة مغایرة لعلیة العلة فإن علیة العلة معقولة بالقیاس إلى معلولیة المعلول و ذات العلة غیر معقولة بالقیاس إلى شی‏ء و إلا لکانت ذات العلة من باب المضاف فلا تکون قائمة بنفسها لکن المبدأ الأول القائم بذاته علة لما سواه هذا خلف.
و أیضا فیلزم أن یکون ذات العلة مع المعلول مع أنها متقدمة علیه هذا خلف- و إذا ثبت المغایرة بینهما و ثبت أن ذات العلة غیر معقولة بالقیاس إلى المعلول لم یجب من العلم بحقیقة الذات التی عرضت لها العلیة العلم بذات المعلول.
فنقول فی حل هذا الإشکال «2» إن علیة العلة لا یمکن أن یکون وصفا ثبوتیا زائدا على حقیقة العلة و وجودها و إلا لکانت علیه العلة لتلک العلیة أیضا زائدة على ذات العلة و لزم من ذلک التسلسل فإذا علیة العلة نفس ذاتها المخصوصة و أما کون المضاف من جملة الأعراض و ذات العلة قد تکون جوهرا فکیف یکون شی‏ء واحد جوهرا و عرضا فجوابه کما أشرنا إلیه فی مباحث المضاف أن وجود الجوهر غیر ماهیته العقلیة فالجوهر إذا کان موجودا و هو بحقیقته علة لشی‏ء فتلک الماهیة الجوهریة إذا عقلت لم یلزم من تعقله على هذا الوجه الکلی تعقل کونها علة أو مضافة فإضافة العلیة معقولها خارج عن المعقول من حقیقة الجوهر فالوجود المنسوب إلیها من جهة ذاتها هو وجود الجوهر المعقول لذاته فی ذاته و إذا نسب إلیها من حیث کونها سببا لشی‏ء أو مرتبطا به أی ارتباط کان ذلک الوجود من تلک الجهة وجود المضاف «1» و کأنه وجود الشی‏ء على صفة فیکون کوجود العارض لشی‏ء إلا أنه غیر مستقل الماهیة فهذا تحقیق وجود المضاف لا کما زعمه الناس من أنه غیر موجود فی الخارج و إلا لزم الکذب فی قولنا هذا علة و ذاک معلول و هذا أب و ذاک ابن «2».
فإن رجعت و قلت إن لذات العلة حقیقة مخصوصة متمیزة عن ذات المعلول- و لیس أحدهما داخلا فی الآخر و إذا تباینا فلم لا یجوز حصول العلم بأحدهما مع الجهل بالآخر.
فنقول هیهات لیست مغایرة العلة و المعلول کمغایرة زید و عمرو و کمغایرة جسم و جسم حتى یمکن تصور أحدهما مع الغفلة عن الآخر بل وجود المعلول بخصوصه من نتائج وجود العلة و لوازمها و نسبة وجوده إلى وجود العلة نسبة لوازم الماهیة إلى الماهیة «1» و وجود العلة لیس إلا تمام وجود المعلول و کماله- و المغایرة بینهما کالمغایرة بین الأشد و الأنقص و بالجملة التعقل التام أن یکون مطابقا للوجود الخارجی بل متحدا به «2» فإذا کان الشی‏ء بذاتها سببا للمعلول بلا واسطة وجب أن یکون العلم بعلته مقتضیا للعلم به بلا واسطة
و أما المطلب الثانی‏
و هو أن العلم بالمعلول لا یوجب العلم بالعلة بخصوصها فبیانه أن موجب الشی‏ء لا بد أن یکون علته فالعلم بالعلة إذا حصل من جهة العلم بشی‏ء- فذلک العلم لا بد و أن یکون علة للعلم بالعلة لکن وجود المعلول یتحد بالعلم «3» کما مر فلا بد و أن یکون لذلک المعلول ضرب من العلیة بالقیاس إلى علته و إذا کان المعلول بخصوصیة ذاته من توابع العلة فلو کان بخصوصه علة لوجود علته بخصوصها یلزم تقدم الشی‏ء على نفسه و هو محال نعم لما کان استناد المعلول إلى علته- لأجل أنه فی ذاته غیر مستقل الوجود و العدم إذ لو کان له استقلال فی أحدهما لامتنع استناده إلى سبب فالممکن من جهة ماهیته المتساویة النسبة إلى الوجود و العدم یقتضی مرجحا ما و علة ما لا علة مخصوصة فالعلم بثبوت المعلول من هذه الجهة یوجب العلم بثبوت مرجح ما و علة ما و لذلک قیل الإمکان علة الافتقار إلى علة مطلقة فإذا کان المعلول لإمکانه محوجا إلى العلة و الإمکان موجبا للحاجة إلى العلة المطلقة- فلا جرم کان العلم بماهیة المعلول موجبا للعلم بالعلة المطلقة و أما العلة فإن اقتضاءها للمعلول لذاتها و حقیقتها المخصوصة فإذن علیتها لا بد و أن تکون من لوازم ذاتها المعینة و العلة المعینة لا یقتضی معلولا مطلقا و إلا لکان لا یتخصص إلا بقید آخر فالعلة بالعلة بالحقیقة هی مع ذلک القید فلم یکن ما فرضناه علة علة هذا خلف فثبت إذن أن العلة بحقیقتها المعینة تقتضی معلولا معینا فلا جرم کان العلم بحقیقة العلة علة للعلم بحقیقة المعلول المعین و أما المعلول فلا یقتضی العلة المعینة- من حیث هی هی فلا جرم لا یلزم من العلم بالمعلول العلم بالعلة.
فإن قلت المعلول المعین إذا لم یقتض علة معینة کانت نسبته إلى علته و إلى سائر الأشیاء واحدة فلما ذا استند إلیها دون غیرها.
قلنا المعلول المعین یقتضی علة مطلقة لکن العلة المعینة اقتضت «1» معلولا معینا فتعیین تلک العلة لذلک المعلول لیس لأجل اقتضاء المعلول لها بل لأجل اقتضاء ذلک العلة لذلک المعلول فلما کانت تلک العلة لذاتها مؤثرة فی وجود ذلک المعلول- استحال أن یؤثر فیه علة أخرى لامتناع توارد علتین على معلول واحد و لهذا نظائر کثیرة منها أن نسبة الجنس کالحیوان إلى الفصل کالناطق و إلى سائر الفصول واحدة فاختصاص هذه الحصة من الحیوان بالناطق لو کان من جهة طبیعة الحیوان بما هو حیوان لزم الترجیح من غیر مخصص لتساوی نسبة الحیوان إلى جمیع الفصول- فالحیوان بما هو حیوان یحتاج لکونه طبیعة جنسیة ناقصة إلى فصل من الفصول أی فصل کان لکن تحصله فی ضمن هذا النوع بهذا الفصل إنما کان من جهة الفصل لا من جهته و کذلک النوع یحتاج فی تحصله الشخصی الوجودی إلى تشخص ما أی تشخص کان لکن تحصله فی ضمن هذا الشخص کزید بهذه الهویة الوجودیة إنما کان من جهة هذه الهویة لا من جهته و ما اشتهر عند الناس أن بعض الماهیات النوعیة کالإبداعیات- نوعها مقتض للتشخص الخاص و أن التشخص قد یکون من لوازم النوع أی النوع الذی انحصر وجوده فی شخصه لیس بصحیح عندنا لاستحالة کون ماهیة من الماهیات مقتضیة للتشخص لأن التشخص لا یکون إلا بالوجود و قد مر فی مباحث الوجود أن الوجود یمتنع أن یکون معلول الماهیة بالبرهان القطعی الذی سلف ذکره هناک بل الوجود کالتشخص یقتضی الماهیة فیما له ماهیة و الفصل یقتضی الجنس فیما له جنس- فبالوجود الخاص تشخصت الماهیة و صارت شخصا معینا و بالفصل المعین تعینت طبیعة الجنس و صارت نوعا مخصوصا فلأجل هذا العلم بالتشخص یوجب العلم بالنوع- الذی هو معلومه بخصوصه و کذا یلزم من العلم بکل فصل لنوع العلم بجنسه بخصوصه و لا یلزم من العلم بوجود النوع إلا العلم بوجود تشخص ما من التشخصات- و لا من العلم بوجود الجنس إلا العلم بوجود فصل ما من الفصول.
فإن قلت إذا حصل العلم بخصوصیة وجود معلول من المعالیل علما حضوریا شهودیا بحیث لا یکون بصورة زائدة على نفس الوجود بل بحیث لا یغیب الشهود عن الوجود فعند ذلک لا بد و أن یجب من ذلک العلم لخصوصیة ذات العلة أیضا فلا فرق بین العلمین أی العلم بالعلة و العلم بالمعلول فی کون کل منهما مقتضیا للآخر.
قلنا لیس الأمر کذلک لما علمت أن وجود العلة أقوى من وجود المعلول فکما أن وجود المعلول لقصوره و ضعفه لا یحیط بوجود العلة و لا یبلغ أیضا إلى مثله- فکذلک العلم به لا یقتضی البلوغ إلى الإحاطة بوجودها و لا نیل مرتبتها فی الوجود- و لهذا المعنى قال یعقوب بن إسحاق الکندی إذا کانت العلة الأولى متصلة بما یفیضه علینا و کنا غیر متصلین به إلا من جهته فقد یمکن فینا ملاحظته على قدر ما یمکن المفاض علیه أن یلحظ الفائض فیجب إلا ینسب قدر إحاطته بنا إلى قدر ملاحظتنا له لأنها أغرز و أوفر و أشد استغراقا لنا و إذا کان الأمر کذلک فقد بعد عن الحق بعدا کثیرا من ظن أن العلة الأولى لا یعلم الجزئیات انتهى‏

ج 9فصل (5) فی کیفیة حصول العقل الفعال فی أنفسنا
اعلم أن للعقل الفعال وجودا فی نفسه و وجودا فی أنفسنا فإن کمال النفس و تمام وجودها و صورتها و غایتها هو وجود العقل الفعال لها و اتصالها به و اتحادها معه- فإن ما لا وصول «1» لشی‏ء إلیه بوجه الاتحاد لا یکون غایة لوجود ذلک الشی‏ء فما هو غایة بالطبع لشی‏ء فی وقت فهو من شأنه أن یصیر صورة له فی وقت آخر إلا لمانع یقطع طریقه إلى الوصول و کأنا قد أوضحنا تحقیق هذا الاتحاد فی العلم الکلی عند بحثنا عن أحوال العقل و المعقول إیضاحا یکفی لأهل العرفان و أصحاب الذوق و الوجدان- و إن لم یکن نافعا لأهل الجحود و الطغیان فمن استشکل علیه أن شیئا واحدا کیف یکون فاعلا متقدما على وجود الشی‏ء و غایة متأخرة عنه مترتبة علیه ترتبا ذاتیا بعد مراتب استکمالاته و ترقیاته فی الوجود فعلیه أن یرجع و ینظر إلى ما حققناه و یسلک الطریق الذی سلکناه حیث عرفناه بقوة البرهان و نور الکشف و العیان أن المبدأ الأعلى له الأولیة و الآخریة لأجل سعة وجوده المنبسط و قوة وحدته الجامعة- و شدة نوریته الساطعة و تمام هویته التی انبعث منها الهویات و عینه التی انبجست منها أعیان الوجودات فوجوده التام الذی هو فاعل الآنیات هو غایتها و کمالها فهو أصل شجرة الوجود و ثمرتها لأن وحدته لیست کسائر الوحدات التی تحصل بتکررها الأعداد فلا ثانی لوحدته کما لا مثل لوجوده بل أحدیته الصرفة جامعة للکثرات‏ ساریة فی الوحدات و نور وجوده نافذ فی الهویات‏ کما قال أمیر الموحدین علی ع: مع کل شی‏ء لا بمقارنة و غیر کل شی‏ء لا بمزایلة
فلا یدفع وجوده الابتدائی وجوده الانتهائی فمنه یتنزل الموجودات فی الابتداء و إلیه تصعد الآنیات فی الانتهاء فعلى هذا المنوال حال وجودات الأنوار القیومیة و صور المفارقة الإلهیة فإن «1» وجودات العقول الفعالة ظلال لوجوده و وحداتها مثل لوحدته فسعتها و جمعیتها أنموذج لسعته و جمعیته فإنما هی وسائط صدور الأشیاء عن الحق تعالى و وسائل رجوع الموجودات إلیه فلها الأولیة بأولیته و الآخریة بآخریته کما أنها موجودة بوجوده لا بإیجاده- باقیة ببقائه لا بإبقائه لأنها کما علمت بمنزلة أشعة نوره و لوازم هویته.
ثم إن النظر فی العقل الفعال من حیث وجوده فی نفسه غیر النظر فیه من حیث حصوله لنفوسنا فالنظر فیه من الحیثیة الأولى قد مر ذکره فی الربوبیات إذ قد ثبت وجوده فی نفسه بالبرهان و لیس النظر فیه الآن إلا من حیث کونه کمالا للنفس الإنسانیة و تماما لها و البرهان على وجوده فی النفس أن النفس فی مبادی الأمر- و إن کانت نفسا بالفعل لکنها عقل بالقوة و لها أن تصیر عقلا بالفعل لأجل تصور المعقولات و التفطن بالثوانی بعد الأولیات حتى یصیر بحیث تحضر صور المعلومات متى شاءت فتحصل لها ملکة استحضار الصور العقلیة من غیر تجشم کسب جدید فخرجت ذاتها من العقل بالقوة إلى العقل بالفعل و کلما خرج من حدود القوة و الاستعداد إلى حد الفعل فلا بد له من أمر یخرجه منها إلیه فهو إن کان أمرا غیر عقلی کجسم أو قوة جسمانیة فیلزم أن یکون الأخس وجودا علة مفیدة للأشرف وجودا و کان غیر العقل‏ أفاده العقل لغیره و ذلک محال و إن کان عقلا فلا یخلو إما أن یکون عقلا فی أصل الفطرة فهو المطلوب و إن لم یکن کذلک فیحتاج لا محالة إلى أمر یخرجه من القوة إلى الفعل- و یجعله عقلا بالفعل فننقل الکلام إلیه حتى یدور أو یتسلسل أو ینتهی إلى المطلوب فثبت وجود العقل المقدس عن شائبة القوة و النقص الاستعدادی.
و من سبیل آخر أن النفس الإنسانیة قد لا یکون معلوماتها التی اکتسبتها حاضرة لها مدرکة و لها قوة الاسترجاع و الاستذکار فهی مخزونة فلها قوة الإدراک و قوة الحفظ و هما متغایرتان لأن «1» الحافظ فاعل و المدرک قابل فیمتنع اتحادهما- و لا شک أن المدرک القابل هی النفس فالحافظ الفاعل جوهر أجل منها وجودا و هذا النحو من الوجود عقل فعال و ظاهر مکشوف أنه لیس جسما من الأجسام و لا قوة فی جسم لأن شیئا منهما لا یکون معقولا بالفعل و لا عاقلا بالفعل فکیف یکون سببا لما لیس بجسم و لا فی جسم و الکلام فی وجود سبب تصیر به النفس عقلا بالفعل و أما المعقول من الجسم فهو صورة عقلیة لا یحمل علیه معنى الجسم بالحمل الشائع الصناعی- فبالجسم لم یصر جسم معقولا فضلا عما لیس بجسم من الأمور التی لیست داخلة فی مکان- و لا منطبعة فی ذی وضع و حیز حتى یجاورها أو یحاذیها جسم أو صورة فی جسم فیؤثر فیها لما تقدم أن تأثیر الأجسام و الجسمانیات فی الأشیاء بمشارکة الأوضاع المکانیة- فإن القرب الوضعی و الاتصال المقداری فی الجسمانیات بإزاء القرب المعنوی و الارتباط العقلی فی الروحانی فی قبول الأثر و استجلاب الفیض و أما الأول تعالى فهو و إن کان هو الفیاض المطلق و الجواد الحق على کل قابل لفیض الوجود إلا أن فی کل نوع من أنواع الکائنات لا بد من واسطة تناسبه من الصور المجردة و الجواهر العقلیة و هم الملائکة المقربون المسمون عند الأوائل بأرباب الأنواع و عند الأفلاطونیین بالمثل الأفلاطونیة و الصور الإلهیة لأنها علومه التفصیلیة التی بواسطتها یصدر الأشیاء الخارجة کما مر و لا شک أن ألیقها و أنسبها فی أن یعتنی تکمیل النفوس الإنسانیة- هو أبوها القدسی و مثالها العقلی المسمى بلسان الشرع جبرئیل روح القدس و فی ملة الفرس کان یسمى روانبخش و فی کثیر من الآیات القرآنیة تصریح بأن هذه المعارف فی الناس و فی الأنبیاء ع یحصل بتعلیم الملک و إلهامه کقوله تعالى عَلَّمَهُ شَدِیدُ الْقُوى‏ و قوله قالَ نَبَّأَنِیَ الْعَلِیمُ الْخَبِیرُ «1» و کیفیة وساطة هذا الملک المقرب العقلانی- فی استکمالاتنا العلمیة أن المتخیلات المحسوسة إذا حصل فی قوة خیالنا یحصل منها من جهة المشارکات و المباینات المعانی الکلیة و لکنها فی أوائل الأمر مبهمة الوجود- ضعیفة الکون کالصور المرئیة الواقعة فی موضع مظلم فإذا کمل استعداد النفس و تأکد صلاحیتها بواسطة التصفیة و الطهارة عن الکدورات و تکرر الإدراکات و الحرکات الفکریة- أشرق نور العقل الفعال علیها و على مدرکاتها الوهمیة و صورها الخیالیة فیجعل النفس عقلا بالفعل و بجعل مدرکاتها و متخیلاتها معقولات بالفعل و فعل العقل الفعال فی النفس و صورها المتخیلة الواقعة عندها کفعل الشمس فی العین الصحیحة و ما عندها من الصور الجسمانیة الواقعة بحذائها عند إشراقها على العین و على مبصراتها فالشمس مثال العقل الفعال و قوة الإبصار فی العین مثال قوة البصیرة فی النفس و الصور الخارجیة التی بحیالها مثال الصور المتخیلة الواقعة عند النفس فکما أن قبل إشراق الشمس عند الظلام یکون البصر بصرا بالقوة و المبصرات مبصرات بالقوة فإذا طلعت الشمس و أشرق علیها صارت القوة البصریة رائیة مبصرة بالفعل و تلک الملونات التی بحیالها مرئیات مبصرة بالفعل فکذلک مهما طلع على النفس هذا النور القدسی و أشرق ضوؤه علیها و على مدرکاته الخیالیة صارت القوة النفسانیة عقلا و عاقلا بالفعل و صارت المتخیلات معقولات بالفعل و میزت القوة العقلیة بین المکتسبات الحاصلة ذاتیاتها عن عرضیاتها و حقائقها عن لواحقها و رقائقها و أصولها عن فروعها و أخذتها مجردة عن الأعداد و الأفراد فیصیر الإنسان عند ذلک إنسانا عقلیا إذ بطلت جزئیته و ضیق وجوده بقطع التعلقات و القیود و إذا اشتد هذا النور الذی هو صورته العقلیة اتحد بالروح الکلی الإنسانی المسمى بروح القدس و العقل الفعال و المبدأ الفاعلی الذی سعته وجوده و بسط هویته بحیث یکون نسبته إلى جمیع الأشخاص و الأعداد و الأنداد البشریة نسبة واحدة کما هو شأن الکلی الصادق علیها المحمول علیها بحسب المفهوم و المعنى إلا أن المفهوم «1» عنوان للأفراد و هذا المبدأ الفاعلی حقیقة لها و حامل لها حافظ إیاها- و کذا الطبائع الکلیة عنوانات لذوات نوریة و هویات عقلیة و ملائکة قدسیة و أرباب أنواع طبیعیة و بالجملة مهما صارت النفس عقلا تصیر محسوساتها معقولات بالفعل «2» و عاقلات أیضا لما مر من طریقتنا أن کل معقول بالفعل عاقل بالفعل‏

 

دیدگاه‌ها   

0 # مداين 1391-10-12 12:43
تشكر آقاي يزدانبخش
پاسخ دادن | پاسخ به نقل قول | نقل قول کردن
0 # یزدان بخش 1391-10-15 00:20
خواهش میکنم جناب دکتر....منتظررا هنماییهای شماهستم
پاسخ دادن | پاسخ به نقل قول | نقل قول کردن

نوشتن دیدگاه


تصویر امنیتی
تصویر امنیتی جدید