درس انسان شناسی(متن عربی اسفاراربعه)

 

الباب السابع في نبذ من أحوال النفس الناطقة من حيث نسبتها إلى عالم الطبيعة و فيه فصول

فصل (1) في كيفية تعلق النفس بالبدن اعلم أن تعلق الشي‏ء بالشي‏ء و حاجته إليه متفاوتة بحسب القوة فأقوى التعلقات و أشدها هو التعلق بحسب الماهية و المعنى ذهنا و خارجا كتعلق «1» الماهية بالوجود.

و الثاني ما بحسب الذات و الحقيقة بأن يتعلق ذات الشي‏ء و هويته بذات المتعلق به- و هويته كتعلق «2» الممكن بالواجب.

و الثالث «3» ما بحسب الذات و النوعية جميعا بذات المتعلق به و نوعيته كتعلق العرض كالسواد بالموضوع كالجسم.

و الرابع ما بحسب الوجود «1» و التشخص حدوثا و بقاء بطبيعة المتعلق به- و نوعيته كتعلق الصورة بالمادة فإن حاجة الصورة في تشخصها ليست إلا بمادة لا بعينها- بل بواحدة منها بالعموم كتعلق السقف المستحفظ بالدعامات على سبيل البدل بواحدة منها لا بعينها و كحاجة الجسم الطبيعي في وجوده إلى مكان ما لا بعينه و لهذا يسهل حركته- عن كل واحد من الأمكنة إلى مكان آخر.

و الخامس «2» ما بحسب الوجود و التشخص حدوثا لا بقاء كتعلق النفس بالبدن عندنا حيث إن النفس بحسب أوائل تكونها و حدوثها حكمها حكم الطبائع المادية التي تفتقر إلى مادة مبهمة الوجود فهي أيضا تتعلق بمادة بدنية مبهمة الوجود حيث يتبدل هويته بتوارد الاستحالات و تلاحق المقادير فالشخص الإنساني و إن كان من حيث هويته النفسية شخصا واحدا و لكن من حيث جسميته أي التي بمعنى المادة أو الموضوع- لا التي بمعنى الجنس أو النوع ليس واحدا بالشخص و قد سبق تحقيق كون موضوع الحركة الكمية أمرا نوعيا بحسب الجسمية شخصيا بحسب الطبيعة أو النفس.

و السادس ما يكون التعلق بحسب الاستكمال و اكتساب الفضيلة للوجود لا بحسب أصل الوجود كتعلق النفس بالبدن عند الجمهور من الفلاسفة مطلقا و تعلقها «1» به بعد البلوغ الصوري الذي عند صيرورتها نفسا ذات قوة متفكرة و عقل عملي بالفعل قبل أن يخرج عقله النظري من القوة إلى الفعل عندنا و هذا أضعف التعلقات المذكورة و هو كتعلق الصانع بالآلة إلا أن هذا التعلق بهذه الآلات البدنية تعلق طبيعي ذاتي و تعلق النجار مثلا بالآلة عرضي خارجي و ذلك لأن النفوس كلها خالية في مبادي تكونها عن الكمالات و الصفات الوجودية سواء كانت بحسب الحيوانية مطلقا أو بحسب الإنسانية خاصة و لم يكن لها تحصيل هذه الكمالات إلا بحسب استعمال الآلات و كان من الواجب أن تكون تلك الآلات مختلفة بعضها من باب الحركات و بعضها من باب الإدراكات- و التي من باب الحركات بعضها بحسب الحيوانية من باب الشهوة و بعضها من باب الغضب- و التي من باب الإدراكات بعضها من باب اللمس و بعضها من باب الشم و بعضها من باب الذوق- و بعضها من باب الإبصار و بعضها من باب السماع و هكذا غيرها و لو لم يكن آلات النفس مختلفة- حتى يفعل بكل آلة فعلا خاصا لازدحمت عليها الأفعال و لاجتمعت الإدراكات كلها على النفس و كانت حينئذ يختلط «2» بعضها على بعض و لم يحصل منها شي‏ء على الكمال و التمام و لأن صور الأشياء إنما تحصل للنفس أولا في حسها ثم في خيالها ثم في عقلها النظري و لهذا قيل من فقد حسا «3» فقد علما و لا شي‏ء من المحسوسات بحيث يكون جامعا لذاته بحسب وجود واحد لجميع الكيفيات و الصفات التي يقع الإحساس بها فإن المبصر غير المسموع و الرائحة غير الطعم فهكذا يجب أن يكون مدارك هذه الكيفيات و الكمالات و مشاعرها الجزئية مختلفة و هذا بخلاف وجود الأشياء في العقل- حيث يجوز أن يكون هناك شي‏ء واحد بحسب وجود واحد عقلي شما و ذوقا و رائحة و صوتا و لونا و حرارة و برودة و غير ذلك من الصفات على وجه أعلى و أشرف كما بينه الفيلسوف العظيم في كتابه فثبت أن من الواجب أن يكون إدراك المحسوسات بما هي محسوسات- لا يمكن إلا بآلات مختلفة حسب اختلاف أجناسها كيلا يختلط على النفس و يتشوش إدراكاتها- و لما اختلفت الآلات فلا جرم النفس إذا حاولت الإبصار التفتت إلى العين فيقوى على الإبصار التام و إذا حاولت السماع التفتت إلى الأذن فقويت على السماع التام و كذلك القول في سائر الأفعال بسائر القوى و إذا تكررت منها هذه الأفعال باستعانة هذه الآلات وقعت لها ملكة و اقتدار على تحصيل تلك الأمور التي لم يمكن حصول حضورها إلا باستعانة الآلات من غير الاستعانة بشي‏ء منها بل تستحضرها و تتصرف فيها كما تشاء بذاتها و في عالمها- فعلم من هاهنا أن النفس في أول تكونها كالهيولى الأولى خالية عن كل كمال صوري- و صورة محسوسة أو متخيلة أو معقولة ثم تصير «1» بحيث تكون فعالة للصورة المجردة عن المواد جزئية كانت أو كلية و لا محالة تلك الصور أشرف و أعلى من هذه الصور الكائنة الفاسدة فما أشد سخافة رأي من زعم أن «2» النفس بحسب جوهرها و ذاتها شي‏ء واحد من أول تعلقها بالبدن إلى آخر بقائها و قد علمت أنها في أول الكون لا شي‏ء محض كما في الصحيفة الإلهية هَلْ أَتى‏ عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً و عند استكمالها تصير عقلا فعالا.

فإن قلت قد ثبت أن النفس كمال أول لجسم طبيعي و الكمال و الصورة شي‏ء واحد بالذات متغاير بالاعتبار فكيف يحكم بأن النفس في أول الفطرة معراة عن كل صورة.

قلنا الصورة» صورتان إحداهما صورة مادية وجودها وجود أمر منقسم متحيز ذي جهة و وحدتها عين قبول الكثرة و ثباتها عين التجدد و الانقضاء و فعلها عين قوة الأشياء فكونها صورة مصحوب بكونها مادة و الثانية صورة غير مخلوطة بالمادة سواء كانت مشروطة بوجود المادة على وضع خاص بالقياس إلى آلتها أم لا و هذه بقسميها هي الحرية باسم الصورة دون الأولى لأن الأول ضعيفة الوحدة ضعيفة الوجود- كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً و لذلك لم يكن لها وجود إدراكي فلا يكون بوجودها الخارجي محسوسة و لا متخيلة و لا معقولة و الثانية لها وجود إدراكي صوري بلا مادة فتكون إما محسوسة إذا احتاجت في وجودها إلى نسبة وضعية لمظهرها و مرآة حضورها بالقياس إلى مادة و إما متخيلة أو معقولة إن لم يكن كذلك- فإذا تحقق ما ذكرناه و تبين و ظهر أن النفس في أول الفطرة ليست شيئا من الأشياء الصورية بالمعنى الثاني و لا أيضا كانت مما قد حصل لها شي‏ء من الصور الحسية أو الخيالية أو العقلية- إذ وجود الشي‏ء للشي‏ء فرع على وجود ذلك الشي‏ء في نفسه بنحو ذلك الوجود إن خارجا فخارجا و إن حسيا فحسيا و إن خياليا فخياليا و إن عقلا فعقلا فهي حين حدوثها نهاية الصور الماديات و بداية الصور الإدراكيات و وجودها حينئذ آخر القشور الجسمانية و أول اللبوب الروحانية.

فصل (2) في تحقيق «1» حدوث النفوس البشرية

ما مر من الكلام يكفي لإثبات أن هذه النفوس حادثة بحدوث الأبدان إذ قد ظهر أنها متجددة مستحيلة من أدنى الحالات الجوهرية إلى أعلاها و لو كانت «2» في ذاتها قديمة لكانت كاملة الجوهر فطرة و ذاتا فلا يلحقها نقص و قصور و لو لم يكن في ذاتها ناقصة الوجود- لم يكن مفتقرة إلى آلات و قوى بعضها نباتية و بعضها حيوانية. و أيضا لو كانت «1» قديمة لكانت منحصرة النوع في شخصها و لم يكن يسنح لها في عالم الإبداع الانقسام و التكثر لأن تكثر الأفراد مع الاتحاد النوعي إنما هو من خواص «2» الأجسام و الجسمانيات المادية و الذي وجوده ليس بالاستعداد و الحركة و المادة و الانفعال- فحق نوعه أن يكون في شخص واحد و النفوس الإنسانية متكثرة الأعداد متحدة النوع في هذا العالم كما سيجي‏ء فيستحيل القول بأن لهذه النفوس الجزئية وجودا قبل البدن فضلا أن تكون قديمة.

و اعلم أن المنقول من بعض القدماء كأفلاطون القول بقدم النفوس الإنسانية- و يؤيده الحديث المشهور : كنت نبيا و آدم بين الماء و الطين و قوله ص: الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف و ما تناكر منها اختلف و لعله ليس المراد أن النفوس البشرية بحسب هذه التعينات الجزئية كانت موجودة قبل البدن و إلا لزم المحالات المذكورة و تعطيل قواها عن الأفاعيل إذ ليس النفس بما هي نفس إلا صورة متعلقة بتدبير البدن لها قوى و مدارك بعضها حيوانية و بعضها نباتية بل المراد أن لها كينونة أخرى لمبادي وجودها في عالم علم الله من الصور المفارقة العقلية و هي المثل الإلهية التي أثبتها أفلاطون و من قبله فللنفوس الكاملة «1» من نوع الإنسان أنحاء من الكون بعضها عند الطبيعة و بعضها قبل الطبيعة و بعضها ما بعد الطبيعة على ما عرفه الراسخون في الحكمة المتعالية و ذلك مبني «2» على ثبوت الأشد و الأضعف في الجوهر- و على وقوع الحركة الاشتدادية في الجواهر المادية و على تحقيق المبادي و الغايات فإن نهايات الأشياء هي بداياتها.

و أما أرسطاطاليس و من تأخر عنه من المشاءين و الأتباع فقد اتفقوا على حدوث هذه النفوس و هذه إحدى المسائل التي اشتهر أنه وقع الخلاف فيها بين هذين الحكيمين و نحن وجهنا قوليهما في قدم النفوس و حدوثها على وجه يتوافق مغزاهما و يتحد معناهما كما أشرنا إليه.

أما حجة كل من الفريقين فالمتعصبون لمذهب أفلاطون احتجوا عليه بثلاث حجج- الأولى «1» أن كل ما يحدث فإنه لا بد له من مادة مخصصة تكون باستعدادها- سببا لأن يصير أولى بالوجود بعد أن لم يكن فلو كانت النفوس حادثة لكانت مادية- و التالي باطل فالمقدم كذلك.

و الثانية أن النفوس لو كانت حادثة لكان حدوثها بحدوث الأبدان لكن الأبدان الماضية غير متناهية فالنفوس الماضية التي بإزائها غير متناهية لكن النفوس بالاتفاق باقية بعد مفارقة الأبدان فالنفوس الحاصلة في هذا الوقت غير متناهية لكن ذلك أي وجود نفوس غير متناهية موجودة بالفعل معا محال لكونها تقبل الزيادة و النقصان مع أن كل ما كان كذلك فهو متناه فإذن ثبت أن النفوس الموجودة بالفعل متناهية فإذن ليس حدوث الأبدان سببا لحدوث النفوس فإذن حدوث النفوس عن عللها لا يتوقف على حدوث البدن و استعداد المادة فهي قديمة.

الثالثة أنها لو كانت حادثة كانت غير دائمة إذ كل كائن فاسد و كل «2» ما هو أبدي فهو أزلي و قد ثبت أنها باقية أبدية كما سيجي‏ء بيانه فهي إذن أزلية.

أما الجواب عن الأول فلما سيأتي تحقيقه على مذهبنا من كون النفس جسمانية الحدوث روحانية البقاء و على مذهب القوم من أن النفس حادثة مع المادة لا في المادة.

و أما عن «1» الثاني فبأن النفوس المفارقة و إن كانت غير متناهية لكنها ليست مرتبة لا ترتبا طبيعيا و لا وضعيا و البرهان الدال على استحالة اللاتناهي في الأعداد- إنما ينهض لو كانت مترتبة مجتمعة و إلا فلم يقم على استحالته برهان.

و أما عن الثالث فالنفس الإنسانية من حيث ذاتها المجردة غير كائنة و لا فاسدة- و أما من جهة ما يقع تحت الكون فهي فاسدة أيضا كما أنها كائنة.

و أما حجج القائلين بحدوث النفوس فمنها أنها لو كانت موجودة قبل الأبدان فإما أن كانت واحدة أو كثيرة فإن كانت واحدة فإما أن تتكثر عند التعلق أو لا تتكثر فإن لم تتكثر كانت النفس الواحدة نفسا لكل بدن و لو كان كذلك لكان ما علمه إنسان علمه كل إنسان و ما جهله إنسان جهله كل إنسان و ذلك محال و إن تكثرت فما لا مادة له- لا يقبل الانقسام و التجزئة و إن كانت قبل البدن متكثرة فلا بد و أن يمتاز كل واحد منها عن صاحبه إما بالماهية أو لوازمها أو عوارضها و الأول و الثاني محالان لأن النفوس الإنسانية متحدة بالنوع فيتساوى جميع أفرادها في جميع الذاتيات و لوازمها- فلا يمكن وقوع الامتياز بها و أما العوارض اللاحقة فحدوثها إنما يكون بسبب المادة و ما فيها و مادة النفس بوجه هي البدن و قبل البدن لا مادة فلا يمكن أن يكون هناك عوارض مختلفة فثبت أنه يمتنع وجود النفس قبل البدن لا على نعت الاتحاد و لا على نعت الكثرة- فإذن القول بقدمها باطل و اعترض صاحب الملخص على هذه الحجة بوجوه أحدها أنه لم لا يجوز أن يقال إنها كانت قبل الأبدان واحدة ثم تكثرت و ليس لقائل أن يقول كل ما كان واحدا و كان مع ذلك قابلا للانقسام فكانت وحدته اتصالية فكانت جسما لأنا نقول ممنوع أن كل ما وحدته اتصالية فإنه قابل للانقسام و ليس بمسلم أن كل قابل للانقسام فوحدته اتصالية لأن الموجبة «1» الكلية لا تنعكس كنفسها.

الثاني «2» سلمنا أن النفوس كانت متكثرة قبل الأبدان لكن لم قلتم بأنه لا بد و أن يختص كل منها بصفة مميزة لأنه لو كان التميز لأجل الاختصاص بأمر ما لكان ذلك الأمر أيضا متميزا عن غيره فإما أن يكون تميزه عن غيره بما به تميزه عن غيره فيلزم الدور أو بشي‏ء ثالث فيلزم التسلسل و لأن المميز لا يختص بشي‏ء بعينه إلا بعد تميزه عن غيره فلو كان تميز الشي‏ء عن غيره باختصاصه بشي‏ء لزم الدور.

الثالث سلمنا أنه لا بد في الأمور المتكثرة من مميز فلم لا يجوز أن يكون المميز صفة ذاتية و بيانه بما بيناه من اختلاف النفوس بالنوع.

الرابع سلمنا أنه لا يتميز النفوس بشي‏ء من المقولات فلم لا يجوز أن يتميز بشي‏ء من العوارض قولكم العوارض بسبب المادة و المادة هي البدن و قبل البدن لا بدن فنقول لم لا يجوز أن يكون النفس المتعلقة ببدن كانت قبل البدن متعلقة ببدن آخر- و كذلك قبل كل بدن ببدن آخر لا إلى نهاية و لا ينقطع هذه المطالبة إلا بإبطال التناسخ فإذن الحجة المذكورة في إثبات حدوث الأرواح مبنية على إبطال التناسخ- لكن الحكماء الذين أبطلوا التناسخ بنوا إبطالها على حدوث الأرواح حيث قالوا- لو جاز انتقال النفس من بدن إلى آخر لكان لبدن واحد نفسان لأن النفوس لا يحدث عن المبادي إلا بسبب استعداد البدن فإذا حدث بدن باستعداده فلا بد أن يحدث عن المبادي نفس متعلقة به فلو تعلقت به نفس أخرى مستنسخة أيضا يلزم أن يجتمع لبدن واحد نفسان و هو محال فهذه حجتهم و هي مبنية على حدوث النفس و حدوثها مبتن على إبطال التناسخ فيلزم الدور و لأجل ذلك تعجب صاحب المعتبر أبو البركات البغدادي لما ذكر هذا السؤال من ذهول المتقدمين و غفلتهم في مثل هذا المهم العظيم.

الخامس سلمنا أن النفوس لا تتناسخ لكن لم لا يجوز أن تكون قبل الأبدان- موصوفة بعوارض تميز بعضها عن بعض ثم يكون عروض عارض بسبب عارض آخر قبله- لا إلى نهاية.

السادس المعارضة و هي أن النفوس بعد المفارقة لا يكون تمايزها بالماهية و لوازمها و إنما يكون بالعوارض لكن النفوس الهيولانية التي لم يكتسب شيئا من العوارض إذا فارقت الأبدان لا يكون فيها شي‏ء من العوارض إلا مجرد ذاتها التي كانت قبل ذلك- متعلقة بأبدان متغايرة فإن كفى «1» هذا القدر في وقوع التمايز فكفى أيضا كونها بحيث يحدث لها بعد ذلك التعلق بأبدان متمايزة.

و ليس لأحد أن يقول ما قاله الشيخ جوابا عن ذلك من أنها و إن لم تكتسب شيئا من الكمالات إلا أن لكل منها شعورا بهويته الخاصة و ذلك الشعور غير حاصل للنفس الأخرى.

لأنا نقول شعور الشي‏ء بذاته هو نفس ذاته على ما ثبت في باب العلم فلو «2» اختلفا في الشعور بذاتيهما لكانا مختلفين بذاتيهما و ذلك يبطل أصل الحجة.

و أيضا لو ثبت هذا القدر في حصول الامتياز فلم لا يجوز أن يحصل الامتياز بهذا القدر قبل التعلق بالأبدان.

و الجواب أما عن الأول فكل ذات واحدة شخصية موجودة إذا انقسمت و تكثرت بعد وحدتها فوجب أن يكون جزؤه مخالفا لكله ضرورة أن الشي‏ء مع غيره ليس هو بعينه ذلك الشي‏ء لا مع غيره فتلك المخالفة في الوجود إن كانت بالماهية و لوازمها أي منشأ تعددها في الوجود تخالفها بالماهية فيلزم أن يكون تلك الأجزاء متمايزة دائما- لا في وقت دون وقت فيكون ما فرضناه واحدا من هذه الأمور المتعلقة بالأبدان متكثرة حينئذ و إن كانت مخالفتها لا بالماهية و لا بلوازمها فيكون تعددها بعد اتفاقها النوعي- بالجزئية و الكلية تخالفا في المقدار فإن الجزئية و الكلية إذا لم يكونا بحسب المعنى و المفهوم كانتا لا محالة بحسب عظم المقدار و صغره و إلا لم يكن إحداهما أولى بالكلية- و الآخر بالجزئية دون العكس.

و أيضا «1» أجزاء الشي‏ء إذا كانت من جزئيات ماهيته كان ذلك الشي‏ء مقدارا أو ذا مقدار فيلزم أن تكون النفس مقدارا أو متقدرا و هو باطل.

و أيضا لو سلمنا كون الذات المجردة يمكن أن تنقسم بعد وحدتها بأجزاء مماثلة لها بالماهية أو مخالفة لها فيكون كل واحدة من تعينات تلك الأجزاء إنما يحدث بعد التعلق بالأبدان فيكون كل واحدة من تلك النفوس من حيث هي هي حادثة و ذلك هو المطلوب.

أقول بقي الكلام في أن هذه النفوس المتعينة بهذه التعينات الحادثة الجوهرية- هل لها كينونة أخرى عقلية قبل وجود البدن كما أن لها عند استكمالها بالعقل بالفعل- كينونة أخرى عقلية تخالف كينونة النفوس الإنسانية المتفقة النوع أم ليس لها قبل البدن نحو من الوجود أصلا فهذه مسألة يحتاج تحقيقها إلى استيناف بحث على نمط آخر- و ليس كل أحد مما يتسع ذوقه لإدراك هذا المشرب بل يشمئز عنه أكثر الطبائع اشمئزاز المزكوم لرائحة الورد.

و أما الجواب عن الثاني فنقول إنه إشكال برأسه في باب التميز بالعوارض قد أورده هذا المورد مع عظم شأنه في غير هذا المقام و ما قدر على حله ثم حاول دفعه عن هذا المقام فقال هب أن الأمر كما قلتموه إلا أنا نعرف بالبداهة أن كل نوع من أنواع النفوس فإنها مقولة على أشخاص عديدة لأنا بالضرورة نعلم أن كل إنسان لا يجب أن يكون مخالفا لجميع الناس في الماهية و إذا وجد شخصان من نوع من النفوس فقد تمت الحجة.

أقول مفاد ما يدريك لعل هذه المعرفة من بداهة الوهم بعد أن أقيمت الحجة القوية عندك على أن الامتياز بالعوارض دون الذاتيات غير ممكن ثم لا يخفى «1» ما في كلامه حيث جزم بالبداهة أولا أن كل نوع من أنواع النفوس مقولة على أشخاص عديدة و علل هذا الجزم بقوله لا يجب أن يكون كل إنسان مخالفا لجميع الناس في الماهية.

و الذي صح أن يقال في دفع هذا الإشكال هو أن المميز قد يكون ذاتيا للمتميز به عرضيا للأمر المشترك فيه و مثل هذا العروض ليس بحسب الوجود بل بحسب الماهية كعروض الفصل لماهية الجنس و عروض الوجود و التشخص لماهية النوع فإن امتياز الإنسان عن الفرس مثلا بعد اشتراكهما في الحيوانية و لوازمها بالناطق و الناطق من عوارض ماهية الحيوان ليس من ذاتياتها ثم عروضه لها لو كان بعد وجودها لكان متوقفا على تميزها و تحصلها بفصل آخر فيلزم التسلسل أو الدور لكن هذا العروض- إنما يكون في ظرف التحليل العقلي دون ظرف الوجود الخارجي الذي يتحد فيه الجنس و الفصل بوجود واحد فلا «2» يلزم أن يكون تميز المميز الفصلي للنوع الذي يتميز به عن سائر الأنواع المشاركة له في ماهية الجنس متوقفا على تميز هذا النوع في نفسه أولا لأن الفصل محصل للجنس مقدم عليه وجودا و إن تأخر عنه ماهية كالحال بين الوجود و الماهية و هكذا الأمر في المميزات الشخصية لأفراد النوع الواحد إذ التشخص عندنا بنحو الوجود و الوجود متقدم على الماهية في العين نحوا آخر من التقدم و زيادته عليها إنما هي بحسب التصور كما بين مرارا.

و أما الجواب عن الثالث فسنبين أن النفوس البشرية متحدة نوعا من حيث وجودها التعلقي الطبيعي قبل خروج عقولها الهيولانية من القوة إلى الفعل و البرهان «1» قائم- على أن القوى المتعلقة بالأجسام الكائنة الفاسدة لا يمكن أن يكون نوعها منحصرا في فرد لقصور جوهرها عن التمام و عدم احتمال واحد شخصي منها البقاء الأبدي لما مر أن القوى الجسمانية متناهية الأفعال و الانفعالات.

و أما عن الرابع فلما سيظهر لك بطلان التناسخ لا بوجه يتوقف بيانه على حدوث النفوس بل من جهة إثبات الغايات.

و أما عن الخامس فلأن العوارض المتسابقة في الزمان المتواردة على ذات واحدة- لا يمكن أن يكون ورودها إلا بأسباب عائدة إلى القابل من جهة حركاته الاستعدادية التي لا تكون إلا في مادة جسمانية و قبل الأبدان لا يكون للنفوس استعدادات جسمانية يقبل بها صفات متعاقبة يتخصص بسبب سابقها بلاحقها و هكذا لا إلى بداية.

و أما عن السادس فلأن النفوس الهيولانية يتميز بعضها عن بعض بلواحق حاصلة لها بسبب المادة لأن النفوس جسمانية الحدوث حكمها حكم الصور و الطبائع المادية المتكثرة بسبب مميزات جسمانية ثم يلزم تعين كل منها بوجودها الخاص و هو عين شعورها بذاتها و ذلك الذي «1» يستمر استمرارا ثانيا مع ضرب من التجدد الوجودي- فلا جرم يبقى الامتياز بينها دائما و إن حصل لكل منها تفاوت وجودي بحسب تجوهرها من أول تكونها إلى غاية كمالها الجوهري فالحاصل أن الامتياز في أفراد نوع واحد- لا بد و أن يكون أولا بشي‏ء خارج عن الماهية و لوازمها و ذلك لا يكون إلا من عوارض المادة فالنفوس التي بعد الأبدان يتصور بينها التكثر و الامتياز الحاصل لها حين تلبسها بالأبدان ثم يستصحب «2» حكم ذلك فيها بعد الأبدان لبقاء أثر التميز فيها و لو بالتبع- و أما النفوس التي قبل الأبدان فلا يمكن فيها ذلك التميز لا بالذات و لا بالعرض بحسب التبعية و قد ثبت «3» أن قبل عالم الحركات و الاتفاقات لا يمكن عروض مخصص خارجي و مميز عرضي مفارق فليس هناك امتياز بالعوارض بعد اتفاق في الماهية و الحقيقة فهذا ما يمكن أن يتكلف في تقرير هذه الحجة.

حجة أخرى على حدوث النفس ذكرها أبو البركات فقال لو كانت النفس موجودة قبل البدن لكانت إما متعلقة بأبدان أخرى أو غير متعلقة بأبدان أخرى و باطل أن تكون متعلقة بها لأن ذلك قول بالتناسخ ثم إنه أبطل التناسخ بحجة ذكرها المتكلمون من أن أنفسنا لو كانت في بدن آخر لكنا نعلم الآن شيئا من تلك الأحوال التي مضت علينا- و نتذكر أنا كنا في بدن آخر و على حالة أخرى فلما لم نتذكر شيئا منها علمنا أنا ما كنا موجودين في بدن آخر و باطل أن لا يكون متعلقة ببدن آخر لأنها حينئذ تكون معطلة و لا تعطل في الطبيعة و هذه الحجة ضعيفة بوجوه

الأول أن الحجة التي أوردها في بطلان التناسخ الذي هو مبنى هذا الدليل ضعيفة- لجواز أن لا يكون شي‏ء من الأحوال و العلوم السابقة محفوظة في الذاكرة بل تكون منمحية «1» بانمحاء المدارك و تبدل القوى و المشاعر اللهم إلا أن تكون الآثار الباقية- من باب أمور استعدادية و لهذا تتفاوت النفوس في الاستعدادات و تتخالف في الذكاء و البلادة و قبول التعاليم و اكتساب الملكات و غيرها.

الثاني أن التعطيل إنما يلزم إن كانت النفوس موجودة قبل الأبدان بما هي نفوس و ليست متعلقة بالأبدان و أما إذا كانت لها نشأة أخرى و نحو آخر من الوجود فوق كونها نفسا كالعقل أو دون النفسية كالطبيعة و ما يجري مجراها فلم يلزم تعطيل.

الثالث «2» أنها يجوز أن تكون موجودة قبل هذه الأبدان في عالم آخر متعلقة بأبدان «1» آخر غير الأجساد الطبيعية عنصرية كانت أو فلكية فإن استحالة التناسخ- إنما يقام عليها البرهان إذا كان عبارة عن تردد النفوس و الأرواح في هذا العالم من بدن مادي آخر على سبيل الاستعداد و تهيؤ المواد كما يظهر من برهان استحالته حسب ما أصلناه كما سيجي‏ء ذكره إن شاء الله تعالي.

فصل (3) في إيضاح القول في هذه المسألة المهمة و تعقيب ما ذكروه و هدم ما أصلوه اعلم أن هذه المسألة دقيقة المسلك بعيدة الغور و لذلك وقع الاختلاف بين الفلاسفة السابقين في بابها و وجه ذلك أن النفس الإنسانية ليس لها مقام معلوم في الهوية و لا لها درجة معينة في الوجود كسائر الموجودات الطبيعية و النفسية و العقلية التي كل له مقام معلوم بل النفس الإنسانية ذات مقامات و درجات متفاوتة و لها نشآة سابقة و لاحقة- و لها في كل مقام و عالم صورة أخرى كما قيل‏ لقد «1»

صار قلبي قابلا كل صورة             فمرعى لغزلان و ديرا لرهبان‏

 و ما هذا شأنه صعب إدراك حقيقته و عسر فهم هويته و الذي أدركه القوم من حقيقة النفس ليس إلا ما لزم وجودها من جهة البدن و عوارضه الإدراكية و التحريكية و لم يتفطنوا من أحوالها إلا من جهة ما يلحقها من الإدراك و التحريك و هذان الأمران مما اشترك فيهما جميع الحيوانات و أما ما أدرك منها أزيد من ذلك و هو تجردها و بقاؤها بعد انقطاع تصرفها عن هذا البدن فإنما عرف ذلك من كونها محل العلوم و أن العلم لا ينقسم و محل غير المنقسم غير منقسم فالنفس بسيطة الذات و كل بسيطة الذات غير قابل للفناء- و إلا لزم تركبه من قوة الوجود و العدم و فعلية الوجود و العدم هذا خلف هذا غاية عرفانهم بالنفس أو ما يقرب من هذا و من ظن أنه بهذا القدر عرف حقيقة النفس فقد استسمن ذا ورم- و من اقتصر في معرفة النفس على هذا القدر فيرد عليه إشكالات كثيرة لا يمكنها التفصي عنها- منها أن كونها «1» بسيطة الذات ينافي حدوثها.

و منها أن كونها روحانية الحقيقة عقلية يناقض تعلقها بالبدن و انفعالاتها البدنية- كالصحة و المرض و اللذة و الألم الجسمانيين.

و منها أن بساطتها و تجردها عن المادة ينافي تكثرها بالعدد حسب تكثر الأبدان- و مما يلزم هؤلاء القوم المنكرين لكون النفس متطورة في الأطوار منقلبة في الشئون الحسية و الخيالية و العقلية أن كل نفس من لدن أول تعلقها بالبدن و حدوثها إلى أقصى مراتب تجردها و عاقليتها و معقوليتها شي‏ء واحد و جوهر واحد واقع تحت ماهية نوعية إنسانية- كوقوع الإنسان تحت ماهية جنسية حيوانية.

و أقول هاهنا دقيقة أخرى فيما يلزم هؤلاء القوم و هو أنهم معترفون بأن النفس «2» فصل اشتقاقي مقوم لماهية النوع المركب منها و من الجسد في الخارج كالحساسة للحيوان- و الناطقة للإنسان و قائلون «3» بأن الجنس و الفصل بإزاء المادة و الصورة في المركبات الطبيعية و قائلون أيضا إن الفصل المحصل لماهية النوع محصل لوجود جنسه و إن كون الجنس عرضا بالقياس إلى الفصل المقسم ليس معناه أنه من عوارضه الخارجية له- التي يمكن تصور انفكاكه عنها بحسب الواقع بل إنما معناه كونه من العوارض التحليلية- التي لا يتصور الانفكاك بين العارض و المعروض في هذا النحو من العروض إلا بضرب من الاعتبار الذهني فإذا تقرر هذا فنقول لو لم يكن للجوهر النفساني الإنسي حركة جوهرية و استحالة ذاتية لزم «1» كونه دائما متحد الوجود بالجسم النامي الحساس لأن النفس مبدأ فصل النوع الإنساني أعني مفهوم الناطق الذي هو من الفصول المنطقية و كذا الحساس للحيوان بإزاء النفس الحساسة التي هي من الفصول الاشتقاقية بعينها هي الصور النوعية للأجسام الطبيعية و تلك الصور كالناطقة و الفصول الاشتقاقية بما هي فصول لا بما هي صور يحمل عليها الجسم بما هو جنس و إن لم يحمل عليها بما هو مادة فعلى رأيهم يلزم كون النفس جسما بأحد الوجهين المذكورين مع أنهم قائلون بتجرد الناطقة حدوثا و بقاء لا كما ذهبنا إليه من كونها جسمانية الحدوث روحانية البقاء فهذا أحد البراهين- على ثبوت الاشتداد في مقولة الجوهر كما في مقولة الكيف و الكم و به ينحل كثير من الإشكالات الواردة في حدوث النفس و بقائها بعد الطبيعة و الجمهور لعدم تفطنهم بهذا الأصل الذي بيناه في هذا الموضع و قبل هذا بوجوه قطعية أخرى تراهم «1» تحيروا في أحوال النفس و حدوثها و بقائها و تجردها و تعلقها حتى أنكر بعضهم تجردها- و بعضهم بقاءها بعد البدن و بعضهم قال بتناسخ الأرواح و أما الراسخون في العلم- الجامعون بين النظر و البرهان و بين الكشف و الوجدان فعندهم «2» إن للنفس شئونا و أطوارا كثيرة و لها مع بساطتها أكوان وجودية بعضها قبل الطبيعة و بعضها مع الطبيعة و بعضها بعد الطبيعة و رأوا أن النفوس الإنسانية موجودة قبل الأبدان بحسب كمال «1» علتها و سببها و السبب الكامل يلزم المسبب معها فالنفس موجودة مع سببها لأن سببها كامل الذات تام الإفادة و ما هو كذلك لا ينفك عنه مسببه لكن تصرفها في البدن- موقوف على استعداد مخصوص و شروط معينة و معلوم أن النفس حادثة عند تمام استعداد البدن و باقية بعد البدن إذا استكملت و ليس ذلك إلا لأن سببها يبقى أبد الدهر فإذا حصل لك علم يقيني بوجود سببها قبل البدن و علمت معنى السببية و المسببية و أن السبب «2» الذاتي هو تمام المسبب و غايته حصل لك علم بكونها موجودة قبل البدن بحسب كمال وجودها و غنائها و الذي يتوقف على البدن هو بعض نشآتها و يكون استعداد البدن شرطا لوجود هذه النشأة الدنية و الطبيعة الكونية و هي جهة فقرها و حاجتها و إمكانها و نقصها لا جهة وجوبها و غنائها و تمامها و لو كان البدن شرطا لكمال هويتها و تمام وجودها كما في «3» سائر الحيوانات و النباتات كان زوال البدن موجبا لزوالها- كما يلزم أن ينعدم بعدم الآلة و فساد المزاج البدني تصرف الصانع و عمله المحتاج إلى الآلة كسائر القوى المادية الداثرة الفاسدة المتجددة الزائلة و البرهان قائم على أن للنفس قوة عقلية تتصرف في العقليات بذاتها لا باستعمال آلة و هي كمالها الذاتي و جهة غنائها عن البدن و سائر الأجسام فهي بكمالها السببي خارجة عن عالم الأكوان المتجددة.

فالحق أن النفس الإنسانية جسمانية الحدوث و التصرف روحانية البقاء و التعقل فتصرفها في الأجسام جسماني و تعقلها لذاتها و ذات جاعلها روحاني و أما العقول المفارقة- فهي روحانية الذات و الفعل جميعا و الطبائع جسمانية الذات و الفعل جميعا فلكل من تلك الجواهر مقام معلوم بخلاف النفس الإنسانية و لهذا حكمنا بتطورها في الأطوار- إذ ليس تصرفها في البدن كتصرف المفارقات في الأجسام لأنها بذاتها مباشرة للتحريك الجزئي و الإدراكات الجزئية على سبيل الانفعال و الاستكمال لا على وجه الإفاضة و الإبداع.

و لنرجع إلى تتمة أقوال القوم و متمسكاتهم في باب حدوث النفس الإنسانية و قدمها و تزييف ما قالوه و هدم ما أصلوه أما احتجاجاتهم الباقية على الحدوث- فمنها ما ذكره «1» صاحب الكتاب المسمى بحكمة الإشراق من قوله و ليس هذا النور أي النفس الإنسانية قبل البدن فإن لكل شخص إنساني ذاتا تعلم نفسها و أحوالها الخفية على غيرها فليست «2» الأنوار المدبرة الإنسية واحدة- و إلا ما علم واحد كان معلوما للجميع و ليس كذلك فقبل البدن إن كانت هذه الأنوار موجودة لا يتصور وحدتها فإنها لا تنقسم بعد ذلك إذ هي غير متقدرة و لا «3» برزخية أي جسمانية حتى يمكن عليها الانقسام و لا يتصور تكثرها فإن هذه الأنوار المجردة قبل الصياصي لا يمتاز بشدة و ضعف إذ كل «4» مرتبة من الشدة و الضعف ما لا يحصى و لا عارض غريب فإنها ليست في عالم الحركات حينئذ فلما لم يكن كثرتها و لا وحدتها قبل تصرف الأبدان فلا يمكن وجودها.

أقول فيه نظر من وجوه

الأول أنه يرد على إبطال الشق الثاني أنا لا نسلم أنها متحدة نوعا بمعنى أنها أفراد لنوع واحد متمايزة في الوجود بل هي بأجزاء شي‏ء واحد وحدة عقلية أشبه منها بأفراد ماهية واحدة وحدة نوعية و المستند أن الجواهر العقلية- عند بعض الفلاسفة الكاملين وجودات محضة بلا ماهية و تلك «1» الوجودات متفاوتة بالأشد و الأضعف و معنى الأشد هو كون الوجود بحيث كأنه يشتمل على أمثال ما في الأضعف و يترتب عليه أضعاف ما يترتب على الفرد الضعيف فهذه النفوس قبل نزولها في الأبدان متمايزة بجهات «2» و حيثيات عقلية متقدمة على أكوانها الطبيعية بالذات لا بعوارض قابلية لاحقة لماهياتها و إليه الإشارة بقوله ص: نحن السابقون اللاحقون و قوله ص: كنت نبيا و آدم بين الماء و الطين.

و الثاني أنه يرد على إبطال الشق الأول أنا لا نسلم لزوم ما ذكرتم إن أريد بالإدراكات الإدراكات المتوقفة على الآلات و إن أريد بها الإدراكات الغير المتوقفة على الآلات فلزومه مسلم و لا نسلم عدم اشتراك الكل فيها أ لا ترى أنها اشتركت «1» في العلم «2» بذواتها و في إدراك كثير من الأوليات الغير المتوقفة على الآلات. و لعلك تقول إذا اتحدت النفوس كان جميع الآلات لذات واحدة فتكون تلك الذات مدركة لجميع المدركات بجميع الآلات فكان كل أحد منا يدرك ما يدركه الآخر فيدرك الكل أقول «1» كلامنا في اتحاد النفوس قبل الأبدان لا في اتحادها عند التعلق بالأبدان و الاتحاد بحسب كل نشأة يخالف الاتحاد بحسب نشأة أخرى و لا شبهة لأحد في أن نشأة التعلق بالبدن غير نشأة التجرد عنه كيف و النفوس في هذه النشأة البدنية صارت بحيث ترتبط و يتأحد كل واحدة منها بالبدن اتحادا طبيعيا يحصل منهما نوع طبيعي حيواني و في النشأة العقلية يكون عند استكمالها متحدة بالعقل المفارق كما عليه أفضل الأقدمين فكيف يقاس اتحاد النفوس في عالم العقل و الجمعية باتحادها في عالم الأبدان- و عالم التفرقة في الجواز و عدمه و لو جاز اتحاد النفوس في عالم الأبدان لجاز اتحاد الأبدان بعضها ببعض لأن البدن لا يتشخص إلا بالنفس و الحاصل أن إدراك الشي‏ء بآلة متقوم بتلك الآلة فإدراكات النفوس لما كانت بالآلات كانت مدركة من حيث تلك الآلات فلا يلزم أن يكون مدركاتها من حيث حصولها بآلات أخرى مدركة لذاتها من حيث ذاتها و لا لذاتها من حيث لها آلات أخرى غير الآلات التي بها أدركت تلك الإدراكات و المدركات.

الثالث أن قوله لا يتصور وحدتها لأنها لا تنقسم بعد ذلك فيه أن الوحدة تكون على وجوه شتى كالعقلية و النوعية و العددية و المقدارية و لكل وحدة كثرة تقابلها- و ليس كل وحدة تقابلها كل كثرة فإن موضوع الوحدة العقلية قد يكون بعينه موضوع الكثرة العددية و كذا موضوع الواحد بالطبع قد يكون كثيرا بالأجزاء و قد علمت أيضا فيما سبق أن العقل البسيط كل الأشياء المعقولة فكذلك فيما نحن فيه فإن النزول من نشأة العقل إلى نشأة الأبدان يقتضي تكثير الواحد و الصعود من هذه النشأة إلى نشأة العقل يقتضي توحيد الكثير و ليس تكثير الواحد و لا توحيد الكثير منحصرا فيما يتعلق بالمقادير و الأجرام كما ذكره حتى يلزم كون النفوس متقدرة جرمية.

و منها أيضا ما ذكره في ذلك الكتاب و هو أنها لو كانت موجودة قبل الأبدان فلم يمنعها حجاب و لا شاغل عن عالم النور المحض و لا اتفاق و لا تغير في ذلك العالم فتكون كاملة فتصرفها في البدن يقع ضائعا ثم لا أولوية لتخصيص بعضها ببدن و الاتفاقات إنما هي في عالم الأجسام و ليس في عالم النور المحض اتفاق يخصص ذلك الطرف و ما يقال إن المتصرفات في الأبدان يسنح لها حال موجب لسقوطها عن مراتبها كلام باطل إذ لا تجدد فيما ليس في عالم الحركات و التعلقات.

أقول قد ذكرنا في تعاليقنا على حكمة الإشراق جوابا عن هذه الحجة أن للنفوس «1» كينونة في عالم العقل و كينونة في عالم الطبيعة و الحس و كينونتها هناك تخالف كينونتها هاهنا و هي و إن كانت هناك صافية نقية غير محتجبة و لا ممنوعة عن كمالها العقلي النوعي و لكن «2» قد بقي لها كثير من الخيرات التي لا يمكن تحصيلها إلا بالهبوط إلى الأبدان و الآلات بحسب الأزمنة و الأوقات و فنون الاستعدادات فتصرفها في الأبدان الجزئية بعد كينونتها في المقامات الكلية لا يقع ضائعا كما زعمه بل لحكمة جليلة لا يعلمها إلا الله و الراسخون في العلم.

ثم العجب أن هذا الشيخ و كثيرا ممن يسلك طريقه قائلون بارتقاء بعض النفوس في هذا العالم إلى عالم النور المحض و العقل الصرف من غير استلزام تجدد و إيجاب- و استيجاب سنوح حالة تجددية في ذلك العالم كما هو الأمر المحقق عند العارف فكيف ينكر «1» هبوطها من ذلك العالم إلى هذا العالم من غير لزوم تجدد و تغير هناك- و حال الإعادة كحال الابتداء من غير فرق في صعوبة الدرك و غموض الفهم و دقة المسلك- و من هان عليه التصديق باتصال بعض المتصرفات في الأبدان بعالم العقل البري‏ء عن السنوح و التجدد فليسهل عليه الإذعان بانفصالها عن ذلك العالم و اتصالها بالأبدان و كل ما يصحح أحد الأمرين من البدو و الإعادة يصحح الأخرى و لهذا كثيرا ما وقع في الكتاب الإلهي إثبات الإعادة بثبوت البداية كقوله تعالى كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ.

و اعلم أن حكاية هبوط النفس الآدمية من عالم القدس موطن أبيها المقدس إلى هذا العالم موطن الطبيعة الجسمانية التي كالمهد و موطن النفس الحيوانية التي هي بمنزلة أمها مما كثرت في الصحف المنزلة من السماء و مرموزات الأنبياء و إشارات الأولياء و الحكماء الكبراء ففي القرآن العزيز ذكر هبوط النفس و صعودها في آيات كثيرة كقوله تعالى لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ و كقوله تعالى في حكاية آدم و هبوطه من عالم الجنان قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ و قوله تعالى قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى‏ حِينٍ و قوله تعالى أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ إلى قوله ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ و قوله تعالى إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى‏ رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا و قوله تعالى كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقاً هَدى‏ وَ فَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ و في الحديث النبوي: الناس معادن كمعادن الذهب و الفضة إشارة إلى تقدم وجودها في معادن ذواتها من العقول المفارقة التي هي خزائن علم الله و كيفية هذا التقدم في الوجود كما حققناه و وجهناه من أن للنفوس كينونة عقلية تجردية كما أن لها كينونة تعلقية و كما أن للأشياء «1» الخارجية الجزئية ثبوتا في القضاء السابق الإلهي- و هي هناك مصونة عن التغير و المحو و الإثبات و هاهنا واقعة في الكون و الفساد و المحو و الإثبات لقوله تعالى يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ يعني اللوح المحفوظ عن التغير و التبدل. و في كلام أمير المؤمنين ع: رحم الله امرأ عرف من أين و في أين و إلى أين. فالأولى إشارة إلى حال النفس قبل الكون و الوسط إلى ما مع الكون و الآخر إلى ما بعد الكون و في كلامه ع أيضا: و ليحضر عقله و ليكن من أبناء الآخرة فإنه منها قدم و إليها ينقلب و روي عنه ع أيضا في ماهية النفس و مبدئها و معادها: اعلم أن الصورة الإنسانية هي أكبر «1» حجة الله على خلقه و هي الكتاب الذي كتبه بيده- و هي مجموع صورة العالمين و هي المختصر من اللوح المحفوظ و هي الشاهد على كل غائب- و هي الطريق المستقيم إلى كل خير و الصراط الممدود بين الجنة و النار. و قال معلم الفلاسفة أرسطاطاليس في كتاب أثولوجيا في فائدة هبوط النفس إلى هذا العالم ما معناه أنها لم يضرها هبوطها إلى هذا العالم شي‏ء بل انتفعت به و ذلك أنها استفادت من هذا العالم معرفة الشي‏ء و علمت «2» ما طبيعته بعد أن أفرغت عليه قواها- و تراءت أعمالها «3» و أفاعيلها الشريفة الساكنة التي كانت فيها و هي في العالم العقلي فلو لا أنها ظهرت أفاعيلها و أفرغت قواها و صيرتها واقعة تحت الإبصار لكانت تلك القوى و الأفاعيل فيها باطلا و لكانت النفس تنسى الفضائل و الأفعال المحكمة المتقنة إذا كانت خفية لا تظهر و لو كان هذا هكذا لما عرفت قوة النفس و لا شرفها و ذلك أن الفعل إنما هو إعلان القوة الخفية بظهورها و لو خفيت قوة النفس و لم يظهر لفسدت و لكانت كأنها لم تكن انتهى كلامه و في أقوال الحكماء الأقدمين إشارات لطيفة و رموز شريفة إلى هبوط النفس من ذلك العالم و صعودها و حكايات مرشدة إلى ذلك منها قصة «1» سلامان و أبسال و منها قصة الحمامة المطوقة المذكورة في كتاب كليله و دمنه"- و منها حكاية حي بن يقظان" و للشيخ الرئيس" قصيدة في السؤال عن علة هبوط النفس أولها

هبطت إليك من المحل الأرفع             ورقاء ذات تعزز و تمنع‏

كل ذلك يفيد أن للنفس كينونة قبل البدن و وجودا في العالم الشامخ الإلهي- و أن لها عودا و رجوعا إلى ما هبطت منه و طلوعا لشمس حقيقتها و كواكب قواها من مغربها إما مشرقة مستقيمة و إما منكسفة منكوسة مكدرة و قوله قدس سره و ما يقال إن المتصرفات في الأبدان يسنح لها حال موجب لسقوطها عن مراتبها إلى آخره قلت في الحواشي إن سقوط النفس عبارة عن صدورها عن سببها الأصلي و نزولها عن أبيها المقدس العقلي و الحال «1» التي توجب سقوطها عن ذلك العالم شئون فاعلها و جهات علتها و حيثياتها و قد وقع التنبيه سابقا على أن المعلولات النازلة الصادرة عن فواعلها إنما صدرت عنها بجهاتها «1» و لوازمها الإمكانية و نقائصها و إمكاناتها و فقر ذواتها إلى جاعلها التام القيومي و يعبر عن بعض تلك النقائص بالخطيئة المنسوبة إلى أبينا آدم و عن صدور النفوس «2» عنها بالفرار من سخط الله و ذلك ليس إلا ما يقتضيه الحكمة في ترتيب الوجود فإن النور الأنقص لا تمكن له في مشهد النور الأشد أ لا ترى أنك إذا أردت أن تنظر في مسألة إلهية شديدة الغموض لم تحكمها بعد و توغلت فيها توغلا قويا يكل ذهنك قبل أن يحصل لك ملكة الرجوع إليها و يكون سريع الانصراف منها إلى شغل آخر من الأمور الدنية فرارا من أن يحترق دماغك من استيلاء ظهورها العقلي كما يستولي نور الشمس على أعين الأخافيش و إليه الإشارة في الحديث النبوي: إن لله سبعين «1» حجابا من نور لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل ما انتهى إليه بصره و الحكماء ذكروا وجوها عديدة على طريق الرمز و الإشارة تشير إلى علة هبوط النفس.

فمن أقوال الفلاسفة المتقدمين ما ذكره أنباذقلس و هو أن النفس كانت في المكان العالي الشريف فلما أخطأت سقطت إلى هذا العالم و إنما صارت إلى هذا العالم فرارا من سخط الله إلا أنها لما انحدرت إلى هذا العالم صارت غياثا للنفوس التي قد اختلطت عقولها.

و منها قال أفلاطون الرباني في كتابه فاذن علة «2» هبوط النفس إلى هذا العالم سقوط ريشها فإذا ارتاشت ارتفعت إلى عالمها الأول.

و منها ما قال هو أيضا في كتابه الذي يدعى طيماوس إن علة هبوط النفس إلى هذا العالم أمور شتى و ذلك أن منها ما أهبطت لخطيئة أخطأتها و إنما هبطت إلى هذا العالم لتعاقب و تجازى على خطاياها و منها ما أهبطت لعلة أخرى غير أنه اختصر في قوله و ذم هبوط النفس و سكناها في هذه الأجسام. و قال في موضع آخر من كتاب طيماوس إن النفس جوهر شريف سعيد و إنما صارت في هذا العالم من فعل الباري الخير فإن الباري لما خلق هذا العالم أرسل إليه النفس و صيرها فيه ليكون العالم ذا عقل لأنه لم يكن من الواجب إذا كان هذا العالم متقنا في غاية الإتقان أن يكون غير ذي عقل و لم يكن ممكنا أن يكون العالم ذا عقل و ليست له نفس فلهذه العلة أرسل الباري تعالى النفس إلى هذا العالم و أسكنها فيه ثم أرسل نفوسنا و أسكنها في أبداننا ليكون هذا العالم تاما كاملا و لئلا يكون دون ذلك العالم في التمام و الكمال فينبغي أن يكون في العالم الحسي من أجناس الحيوان ما في هذا العالم العقلي.

و منها ما قاله أرسطاطاليس في مواضع كثيرة من كتابه في معرفة الربوبية من ذلك قوله الطبيعة «1» ضربان عقلية و حسية و النفس إذا كانت في العالم العقلي كانت أفضل و أشرف و إذا كانت في العالم الحسي كانت أخس و أدنى من أجل الجسم الذي صارت فيه و النفس و إن كانت عقلية و من العالم الأعلى العقلي فلا بد أن ينال من العالم الحسي شيئا و تصير فيه لأن طبيعتها متلاحمة للعالم العقلي و العالم الحسي و لا ينبغي أن تذم النفس أو تلام على ترك العالم العقلي و كينونتها في هذا العالم لأنها موضوعة بين العالمين جميعا و إنما صارت النفس على هذه الحال لأنها آخر تلك الجواهر الشريفة الإلهية- و أول الجواهر الطبيعية الحسية و لما صارت مجاورة للعالم الحسي لم تمسك عنه فضائلها بل فاضت عليه قواها و زينته بغاية الزينة و ربما نالت من خساستها ذلك إلا أن يحذر و يحترز. و من ذلك قوله في موضع آخر إن النفس الشريفة و إن تركت عالمها العالي و هبطت إلى هذا العالم السفلي فإنها فعلت ذلك بنوع «1» استطاعتها و قوتها العالية ليتصور الإنية التي بعدها و لتدبرها و إن هي أفلتت من هذا العالم بعد تصويرها و تدبيرها إياه- و صارت إلى عالمها سريعا لم يضرها هبوطها إلى هذا العالم شي‏ء بل انتفعت به و ذلك أنها استفادت من هذا العالم معرفة الشي‏ء و علمت ما طبيعته.

و منه قوله في موضع آخر إذا فارقت النفس العقل و أبت أن يتصل به و أن يكون هي و هو واحدا اشتاقت «2» إلى أن تنفرد بنفسها و أن يكون و العقل اثنين ثم اطلعت إلى هذا العالم و ألقت بصرها على شي‏ء من الأشياء دون العقل استعادت الذكر حينئذ و صارت ذات ذكر فإن ذكرت الأشياء التي هناك لم ينحط إلى هاهنا و إن ذكرت إلى هذا العالم السفلي انحطت من ذلك العالم الشريف.

و منه قوله في موضع آخر فإن قال قائل إن كانت النفس تتوهم هذا العالم قبل أن ترده فلا يخلو أنها تتوهمه أيضا بعد خروجها منه و ورودها إلى العالم الأعلى فإن كانت تتوهمه فإنها لا محالة تذكره و قد قلتم إنها إذا كانت في العالم الأعلى لا «3» تتذكر شيئا من هذا العالم البتةقلنا إن النفس و إن كانت تتوهم هذا العالم قبل أن تصير فيه و لكنه تتوهمه بتوهم «4» عقلي.

و مما يدل أيضا من كلامه على أن النفس كان لها وجود في عالم العقل و وجود في عالم الطبيعة و أن كلا من الوجودين غير الآخر قول هذا الفيلسوف في الميمر الثان فنريد الآن أن نذكر العلة التي بها وقعت الأسامي المختلفة على النفس و لزمها ما يلزم الشي‏ء المتجزي المنقسم الذات فينبغي أن يعلم هل تتجزى النفس أم لا تتجزى- فإن كانت تتجزى فهل تتجزى بذاتها أم بعرض و إذا كانت لا تتجزى فبذاتها لا تتجزى أم بعرض فنقول إن النفس تتجزى بعرض و ذلك أنها إذا كانت في الجسم فقبلت التجزئة بتجزي الجسم كقولك إن الجزء المتفكر غير الجزء البهيمي و جزؤها الشهواني غير جزئها الغضبي فالنفس إنما تقبل التجزئة بعرض لا بذاتها و إذا قلنا إن النفس لا تتجزى- فإنما نقول ذلك بقول مرسل ذاتي و إذا قلنا إنها تقبل التجزئة فإنما نقول ذلك بقول مضاف عرضي و ذلك أنا إذا رأينا طبيعة الأجسام تحتاج إلى النفس لتكون حية- و الجسم يحتاج إلى النفس لتكون منبثة في جميع أجزائه انتهى هذا الكلام. و قد تبين «1» منه أن النفس لها وجود لا يتجزى لا بالذات و لا بالعرض و هو وجودها العقلي و لها وجود يتجزى بالعرض بوجود الطبيعة و ظاهر أن الوجود الذي يتجزى و لو بالعرض غير الوجود العقلي الذي لا يتجزى أصلا بذاته لا بالذات و لا بالعرض.

و قال في موضع آخر منه إن العقل إذا كان في عالمه العقلي لم يلق بصره على شي‏ء من الأشياء التي دونه إلا على ذاته و إذا كان «2» في غير عالمه أي في العالم الحسي فإنه يلقى بصره مرة على «1» الأشياء و مرة على ذاته فقط و إنما صارت ذلك حال البدن- الذي صار فيه بتوسط النفس فإذا كان مشوبا بالبدن جدا ألقى بصره على الأشياء- و إذا تخلص قليلا ألقى بصره على ذاته فقط و العقل لا يستحيل و لا يميل من حال إلى حال إلا بالجهة التي قلنا و أما النفس فإنها تستحيل إذا أرادت علم الأشياء إلى آخر هذا الكلام و غير ذلك من كلماته الشريفة تصريحا و تلويحا إلى أن للنفس كينونة قبل هذه النشأة و بعدها في عالم العقل يظهر لك بالمراجعة إليها و التأمل فيها.

ثم لا يخفى أن عادة الأقدمين من الحكماء تأسيا بالأنبياء أن يبنوا كلامهم على الرموز و التجوزات لحكمة رأوها و مصلحة راعوها مداراة مع العقول الضعيفة و ترؤفا عليهم و حذرا عن النفوس المعوجة العسوفة و سوء فهمهم فما وقع في كلامهم أن النفس أخطأت و هبطت فرارا من غضب الله عليها فهم و أمثالهم يعلمون أن في عالم القدس لا يتصور سنوح خطيئة أو اقتراف معصية و لا يتطرق إليه مستحدثات آثار الحركات- بل عنوا بخطيئة النفس ما أشرنا إليه من جهة إمكانها و حصولها عن مبدئها و نقصها «2»

الموجب لتعلقها بالبدن أو كونها بالقوة فجريمتها الطبيعية نقص جوهرها و هبوطها صدورها عن المفارق بالعلاقة البدنية و كونها عقلا بالقوة و أنها لا تتسع القوة النظرية متمكنة عما من شأنها أن يصدر عنها إلا بعد حين يستعمل القوة العملية في أفاعيلها الحيوانية و النفسانية فالنفس منصرفة الوجه عن أبيها المقدس بعلاقة و تلك العلاقة نحو من أنحاء وجودها و الفرار من سخط الله هذا الشوق الطبيعي إلى تدبير البدن لعشقها بكمال ذاتها ليزول عنها هذا النقص الجوهري بكمال وجودها الجوهري التجردي.

و كذا ما نقل عن بعض المشرقيين الفارسيين أن الظلمة حاصرت النور و حبسته مدة ثم أمددته و أيدته الملائكة فاستظهر على أهرمن الذي هو الظلمة فقهر الظلمة إلا أنه أمهلها إلى أجل مضروب و أن الظلمة حصلت من النور لفكرة ردية فهذا الحديث أيضا كان عن النفس فإنها جوهرة نورانية من جهة كونها عقلا بالفعل كما برهن عليه- و الظلمة هي القوة الحيوانية و الطبيعية و انحصارها تسلط القوى عليها و انجذابها إلى العالم السفلي و إمداد الملائكة مصادفة توفيق القدر بهداية النفس لإشراق عقلي و خروجها إلى الفعل و الإمهال إلى أجل مضروب بقاء القوى إلى حين الموت أو قطع العلاقة و الفكرة الردية التفات النفس إلى الأمور المادية.

و من الاحتجاجات على بطلان تقدم الأرواح الإنسية على أبدانها قول صاحب حكمة الإشراق و التلويحات في كتابه المذكور أن الأنوار المدبرة إن كانت قبل البدن فنقول إن كان منها ما لا يتصرف أصلا أي في بدن فليس بمدبر و وجوده معطل و إن لم يكن منها ما لا يتصرف كان ضروريا وقوع وقت وقع فيه الكل و ما بقي نور مدبر.

أقول قد ذكرت في الحواشي إيرادا عليه أن لنا أن نختار الشق الأول و نقول إن الوجود المفارقي للنفوس غير الوجود التعلقي لها و من ذهب من الأقدمين إلى أن للنفوس وجودا في عالم العقل قبل الأبدان لم يرد به أن النفس بما هي نفس لها وجود عقلي بل مراده أن لها نحوا آخر من الوجود غير وجودها الذي لها من حيث هي نفس مدبرة فعلى هذا لا يلزم من كونها غير متصرفة في الأبدان تعطيل و إنما يلزم التعطيل- لو لم يكن النفس بما هي نفس متصرفة في البدن و حينئذ يقع وجودها ضائعا معطلا- و لا يلزم التعطيل لو لم يكن وجودها العقلي غير متصرفة في جسم بل هي بما هي عقل لا اشتغال لها بالجسم أصلا و هي بما هي نفس لا تنفك عن تدبير و مباشرة أصلا.

و لنا أيضا أن نختار الشق الأخير فإن حقية هذا الشق لا يوجب أن يجي‏ء وقت وقع فيه الكل و ما بقي وجود نفس مدبرة في العالم كما ذكره و ذلك لأنه إن أراد بالوقت في قوله وقت وقع فيه الكل وقتا محدودا معينا و من لفظة الكل الجميع فذلك «1» غير لازم مما ذكره و إن أراد به كل وقت أو أعم من ذلك و من لفظة الكل الأفرادي- فلا محذور فيه و ذلك لأن الزمان غير متناهي الأوقات فعلى تقدير عدم تناهي النفوس- و وجود كل في وقت لا يلزم إلا وجود الجميع في أوقات غير متناهية و ذلك غير ممتنع لا وجود الكل في وقت معين فاللازم غير محذور و المحذور غير لازم.

ثم نقول إن المبدأ العقلي الذي وجدت و انتشرت منه النفوس إلى هذا العالم- غير متناهي القوى و الجهات و الحيثيات الوجودية و كلما انفصلت منه النفوس بقيت فيه القوة الغير المتناهية كما كانت على حالها لا تبيد و لا تنفد لأنه مبدع من مبدإ الكل- و ليس وجود النفوس الغير المتناهية في العالم العقلي على نعت الكثرة العددية و لا أنها ذات ترتيب ذاتي أو وضعي حتى يرد الترديد الذي ذكره في كل واحدة واحدة منها- و يلزم حينئذ ما ذكره من مجي‏ء وقت لم يبق فيه واحد من النفوس.

و إياك أن «1» تتوهم مما ذكرناه أن وجود النفوس في المبدإ العقلي وجود شي‏ء في شي‏ء بالقوة كوجود الصور الغير المتناهية في المبدإ القابلي أعني الهيولى الأولى و ذلك لأن وجود الشي‏ء في الفاعل ليس كوجوده في القابل فإن وجوده في الفاعل أشد تحصيلا- و أتم فعلية من وجوده عند نفسه و وجوده في القابل قد يكون أنقص و أخس من وجوده في نفسه و بحسب ماهيته لأن وجوده «2» في القابل المستعد بالقوة الشبيهة بالعدم و وجوده عند نفسه أن يكون و أن لا يكون و له في الفاعل وجود بالوجوب و وجود النفوس عند مبدئها العقلي و أبيها المقدس وجود شريف مبسوط غير متجز و لا متفرق و هذا مما يحتاج دركه إلى ارتفاع بصيرة القلب عن حد علم اليقين إلى حد عين اليقين فإن قلت ما ذكرته هو قول بانقلاب الحقيقة و هو ممتنع.

قلت هذا ليس من انقلاب الحقيقة في شي‏ء و ذلك «1» لأن انقلاب الشي‏ء عبارة عن أن ينقلب ماهية شي‏ء من حيث هي هي إلى ماهية شي‏ء آخر بحسب المعنى و المفهوم- و هذا ممتنع لأن الماهية من حيث هي هي ليست إلا هي و كذا يمتنع أن ينقلب وجود ماهية إلى وجود ماهية أخرى من غير مادة مشتركة يتبدل عليها الصور بحسب الانفعالات المتواردة عليها أو ينقلب حقيقة بسيطة إلى حقيقة بسيطة أخرى و أما اشتداد الوجود في كماليته و استكمال صورة جوهرية في نفسه حتى يصير متقوما بأوصاف ذاتية أخرى- غير ما كانت أولا فليس ذلك بممتنع لأن «2» الوجود متقدم على الماهية و هو أصل و الماهيات تبعة له أ لا ترى «3» أن الصور الطبيعية تتكامل و تشتد إلى أن تتجرد عن المادة و تنقلب صورة عقلية موجودة في العالم الأعلى العقلي على وصف الوحدة و التجرد- و كذلك النفوس بعكس ذلك كانت في عالم العقل شيئا واحدا جوهرا مبسوطا متحدا عقليا فتكثرت و تنزلت في هذا العالم و صارت لضعف تجوهرها متشبثة بأبدان طبيعية ساكنة في منازل سفلية فليس في هذين الأمرين انقلاب في الحقيقة على الوجه المستحيل فإن للأشياء النوعية و المفهومات المحدودة كالإنسان و الفلك و الأرض و الماء و غيرها أنحاء من الوجود و أطوارا من الكون بعضها طبيعية و بعضها نفسية و بعضها عقلية و بعضها إلهية أسمائية فإنك إذا تعقلت أو تخيلت أرضا أو سماء فقد حصلت في عقلك سماء عقلية- و في خيالك سماء خيالية كل واحدة من الصورتين سماء بالحقيقة لا بالمجاز كما أن التي في الخارج عنك سماء بل الصورتان «1» الأوليان أحق باسم السماء و أولى من التي في الخارج لأن التي في الخارج مموهة مغشوشة بغواشي زائدة و أمور خارجة عن ذاتها- و أعدام و ظلمات و أمور زائلة سائلة متجددة و كذا الحال في كل نوع من الأنواع الطبيعية- فالكل في قضاء الله السابق على وجه مقدس عقلي فأي مفسدة في أن يكون للنفوس- التي هي صور بعض الأنواع الطبيعية كينونة على نحو آخر في العالم العقلي و من «2» زعم أن كون معنى واحد موجودا بوجودات متعددة متخالفة النشآت يوجب قلب الماهية و بطلان الحقيقة فليمتنع عنده العلم بحقيقة شي‏ء من الأشياء فإن العلم بالأشياء «3» الغائبة عبارة عن وجود صورتها المطابقة لها عند العالم و تلك الصورة للشي‏ء قد تكون عقلية و قد تكون خيالية و قد تكون حسية حسب درجات قوة العالم بها فالعالم إذا كان عقلا بسيطا كان علمه بالأشياء صورة بسيطة عقلية تطابق أعدادا بل أنواعا كثيرة في الخارج و تلك الأعداد مع كونها متكثرة المواد الخارجية مختلفة الهويات الطبيعية- فهي مما يحمل عليها معنى واحد نوعي متحد بها إذا أخذ ذلك المعنى مرسلا من غير شرط و قيد من وحدة أو كثرة عددية و كذا إذا كان العالم قوة خيالية كالذوات النفسانية- الموجودة في عالم الأشباح و الأمثال يكون صورتها العلمية صورة متخيلة مطابقة لصورة محسوسة في الحس أو موجودة في المادة بحسب الماهية و الحد مخالفة لها في نشأة الوجود و الهوية و كذا القياس في غير ما ذكرناه من المواطن الإدراكية فقد علم أن لحقيقة واحدة نشأة وجودية بعضها أشد تجردا و أكثر ارتفاعا عن التكثر و الانقسام و عن الوقوع في الحركات و مواد الأجسام و إذا جاز أن يكون صورة واحدة عقلية في غاية التجرد صورة مطابقة لأعداد كثيرة من صور جسمانية بحيث يتحد بها فليجز كون صورة واحدة عقلية هي المسماة بروح القدس صورة مطابقة لنفوس كثيرة إنسية تكون هويتها تمام تلك الهويات النفسانية و ما نقل عن فيثاغورث أنه قال إن ذاتا روحانية ألقت إلي المعارف فقلت من أنت قال أنا طباعك التام يؤيد هذا المطلب و أنت يا حبيبي لو تيسر لك الارتقاء إلى طبقات وجودك لرأيت هويات متعددة متخالفة الوجود كل منها تمام هويتك لا يعوزها شي‏ء منك تشير إلى كل واحدة منها بأنا «1» و هذا كما في المثل المشهور أنت أنا فمن أنا.

حجة أخرى ذكرها أيضا في كتاب حكمة الإشراق بقوله إذا علمت لا نهاية الحوادث- و استحالة النقل إلى الناسوت فلو كانت النفوس غير حادثة لكانت غير متناهية فاستدعت جهات غير متناهية في المفارقات و هو محال.

أقول قد أشرنا إلى أن وجود النفوس في عالم العقل ليس كوجودها في عالم الحس متكثرة ذات ترتيب زماني أو وضعي أو غير ذلك و الذي يلزم من كون النفوس- الغير المتناهية في هذا العالم ذات صورة عقلية يكون بها نحو وجودها العقلي أن يكون تلك الصورة ذات قوة غير متناهية في التأثير و الفعل أعني بحسب الشدة و قد سبق الفرق بين اللاتناهي في الشدة و اللاتناهي في العدة أو المدة و ذلك ليس بمحال إنما المحال تحقق جهات غير متناهية في المبادي العقلية بحسب الكثرة و العدة و حيثية الإمكان- فإن جهات الخير و الوجوب غير متناهية شدة و جهات النقص و الإمكان متناهية شدة- و كذا عدة «1» إلا بالقوة في أوقات و أدوار مختلفة كما يعرفه الحكماء ثم العجب من هذا «2» الشيخ قدس سره حيث ذهب إلى أن لكل نوع جسماني- نورا مدبرا في عالم المفارقات و أن للنفوس البشرية نورا مدبرا عقليا و ذهب إلى أن النفوس أنوار ضعيفة بالقياس إلى النور المفارق و أنها بالنسبة إليه كالأشعة بالقياس إلى نور الشمس و أن النور «3» كله من سنخ واحد و نوع واحد بسيط لا اختلاف في أفراده إلا بالكمال و النقص فإذا كانت نسبة النفوس إلى مبدئها العقلي هذه النسبة فلزم أن يكون وجود ذلك المبدإ العقلي هو تمام وجودات هذه النفوس و نوره كمال هذه الأنوار.

و حاصل هذا البحث أن وجود النفوس مجردة عن تعلقات الأبدان في عالم المفارقات- عبارة عن اتحادها مع جوهرها العقلي الفعالي كما أن وجودها في عالم الأجسام عبارة عن تكثرها و تعددها أفرادا أو أبعاضا حتى أن جزء النفس المتعلق بعضو القلب غير جزئها المتعلق بعضو الدماغ و غير ذلك من الأعضاء كما أن جزءها الفكري غير جزئها الشهوي و جزءها الشهوي غير جزئها الغضبي إلا أن هذه التجزئة بنحو آخر غير تلك التجزئة و للنفس أنحاء من التشريح و التفصيل يعرفها الكاملون و هي غير تشريح البدن و الأعضاء الذي بينه الأطباء و المشرحون و هكذا وجودها في عالم البرزخ المتوسط بين العالمين العقلي و الحسي له تشريح و تفصيل بنحو آخر و وجودها هناك عبارة عن وجود جوهر مثالي إدراكي مجرد عن الأجسام الحسية دون الخيالية إلا أن ذلك الوجود أيضا عين الحياة و الإدراك و قد علمت أن الخيال عندنا جوهر مجرد عن الدماغ و سائر الأجسام الطبيعية و هي حيوان تام متشخص سائح سائر في دار الحيوان و نشأة الجنان.

ذكر تنبيهي:

و اعلم أن شارح كتاب حكمة الإشراق العلامة الشيرازي زيف هذه الحجج المذكورة من هذا الشيخ قدس سره في نفي قدم النفوس و تقدمها على الأبدان و نسبها إلى الإقناع بأن كلها مبتنية «1» على إبطال التناسخ و زعم أن القول بالتناسخ مذهب قوي بل حق ذهب إليه الأقدمون من الحكماء المعظمين كأفلاطون و غيره و نحن مع أنا قد رأينا بطلان التناسخ و ألهمنا ببرهان لطيف على استحالته و فساده و حملنا كلام أفلاطون و الأقدمين على غير ما فهمه القوم و حملوه و وجهناه إلى غير ما وجهوه كما سيجي‏ء لك بيانه في مباحث نفي التناسخ ذكرنا وجوه الخلل في أبحاث هذا الشيخ النحرير في الحواشي بما يؤدي ذكره هاهنا إلى التطويل فارجع إلى الحواشي إن اشتهيت أن تسمعها ثم قال بعد ذلك و ذهب أفلاطون إلى قدم النفوس و هو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه لقوله ع: الأرواح جنود مجندة فما تعارف الحديث و قوله ص: خلق الله الأرواح قبل الأجساد بألفي عام و إنما قيده بألفي عام تقريبا إلى أفهام «1» العوام و إلا فليست قبلية النفس على البدن متقدرة و محدودة بل هي غير متناهية لقدمها و حدوثه انتهى قوله.

أقول لو كان مراد أفلاطون بقدم النفوس قدمها بما هي نفوس متكثرة كما توهمه- لزم منه محالات قوية منها تعطيل النفوس مدة غير متناهية عن تصرفها في البدن و تدبيرها- و قد علمت أن الإضافة النفسية ليست كإضافة الأبوة و البنوة العارضة و كإضافة الربان إلى السفينة و كإضافة رب الدار إلى الدار حتى يجوز أن يزول و يعود تلك الإضافة النفسية و الشخص بحاله بل النفسية كالمادية و الصورية و غيرها من الحقائق اللازمة الإضافات التي نحو وجودها الخاص مما لزمتها الإضافة و كالمبدعية و الإلهية لصانع العالم حيث ذاته بذاته موصوفة بها فالنفس ما دام كونها نفسا لها وجود تعلقي فإذا استكملت في وجودها و صارت عقلا مفارقا يتبدل عليها نحو الوجود و يصير وجودها وجودا أخرويا و ينقلب إلى أهله مسرورا فلو فرضت وجودها النفسي قديما لزم التعطيل بالضرورة و التعطيل محال.

و منها لزوم كثرة في أفراد نوع واحد من غير مادة قابلة للانفعال و لا مميزات عرضية و هو محال. و منها وجود جهات غير متناهية بالفعل في المبدإ العقلي ينثلم بها وحدة المبدإ الأعلى- إلى غير ذلك من المحالات اللازمة على القول بلا تناهي النفوس المفارقة في الأزل و على القول بتناهي النفوس «2» القديمة يلزم التناسخ و كثير من المفاسد المذكورة.

و بالجملة نسبة القول بقدم النفوس بما هي نفوس إلى ذلك العظيم و غيره من أعاظم المتقدمين مختلق كذب كيف و هم قائلون بحدوث هذا العالم و تجدد الطبيعة و دثورها- و سيلان الأجسام كلها و زوالها و اضمحلالها كما أوضحنا طريقه و نقلنا أقوالهم فيه.

و إن كان مراده بذلك أن لها نشأة عقلية سابقة على نشأتها التعلقية فلا يستلزم ذلك قدم النفوس بما هي نفوس و لا تناسخ الأرواح و ترددها في الأبدان لأنهما باطل كما مر- ثم إن الآيات و الأخبار الدالة على تقدم النفوس على الأبدان يجب أن يحمل على ما حملناه «1».

ثم قال و قد تمسك أفلاطون عليه بأن علة وجود النفس إن كانت موجودة بتمامها- قبل البدن الصالح لتدبيرها فوجدت قبله لاستحالة تخلف المعلول عن العلة التامة و إن لم تكن موجودة بتمامها بل به يتم توقف وجودها عليه لكونه على هذا التقدير جزء علة وجودها أو شرطها لكنها لا تتوقف و إلا وجب «2» بطلانها ببطلانه لكنها لا تبطل ببطلانه للبراهين الدالة على بقائها ببقاء علتها الفياضة و أخصرها أنها غير منطبعة في الجسم بل ذات آلة به فإذا خرج الجسم بالموت عن صلاحية أن يكون آلة لها فلا يضر خروجه عن ذلك جوهرها بل لا تزال باقية ببقاء العقل المفيد لوجودها الذي هو ممتنع التغير فضلا عن العدم كما عرفت و إذا كان كذلك فيجب وجودها قبل البدن الصالح لتدبيرها و على هذا لا يكون البدن شرطا لوجودها بل لتصرفها فيه فيكون البدن كفتيلة- استعدت لاشتعال من نار عظيمة فتنجذب النفس إليه بالخاصية أو البدن إليها كالمغناطيس و الحديد و ليس من شرط جذب المغناطيس للحديد أن يكونا موجودين معا انتهى‏أقول إنا سنبين كيفية حدوث النفس و تعلقها بالبدن و ما ذكره إشكال ستقف على حله و هو احتجاج صحيح على قدم كل بسيط الحقيقة و يلزم منه قدم المفارق- و كذا النفوس بحسب وجودها البسيط العقلي الذي هو صورة من صور ما في علم الله- و شأن من الشئون الإلهية و قد علمت أن وجود النفس و نفسيته شي‏ء واحد و هي بحسب هذا الوجود صورة مضافة إلى البدن متصرفة فيه لا أن إضافتها إليه و تصرفها فيه من العوارض اللاحقة التي هي بعد وجودها حتى يزول و يعود كالإضافة التي بين المغناطيس و الحديد كما زعمه فالذي يحوج إلى البدن هو وجودها التعلقي و جهة نفسيتها و تصرفها فيه و استكمالها به و هذا النحو من الوجود ذاتي لها حادث بحدوث البدن و كما تحدث بحدوثه تبطل ببطلانه بمعنى أنها تبطل النفس بما هي نفس ذات طبيعة بدنية و ينقلب بجوهرها إلى نحو آخر من الوجود بحسب استكمالاتها الجوهرية المتوجهة إلى الغايات- و فناء «1» الشي‏ء إلى غايته الذاتية و مبدئه أشرف و أولى له فقوله و إلا وجب بطلانها ببطلانه مسلم و حق و قوله لكنها لا تبطل ببطلانه للبراهين الدالة على بقائها إلى آخره- إن أراد به بقاء النفس بما هي نفس معينة فشي‏ء من البراهين التي وجدناها لا يدل إلا على أن ما يكون موجودا بسيط الحقيقة لا يمكن أن يبطل و أما النفس بما هي نفس- و كذا كل صورة و طبيعة مادية محصلة للجسم فليست بسيطة الهوية.

فإن قال قائل إنه يلزم مما ذكرت أن كل نفس لم تبلغ في وجودها إلى مقام العقل البسيط فهي هالكة بهلاك البدن و دثوره فعلى ما ذكرت لم يبق من النفوس بعد الأبدان- إلا نادرا قليلا في غاية الندرة.

فنقول إن للنفوس بعد هذه النشأة الطبيعية نشأتان أخريان إحداهما النشأة الحيوانية المتوسطة بين العقل و الطبيعة و الأخرى النشأة العقلية فالأولى للمتوسطين و الناقصين و الأخيرة للكاملين المقربين.

إيضاح و تأكيد: قوله و على هذا لا يكون البدن شرطا لوجودها بل لتصرفها إلى آخره اعلم أن هذا كلام من يفرق بين التصرف الذاتي الطبيعي و بين التصرف الصناعي العرضي فوقع في هذا الإشكال الذي بيناه الاشتباه بين أخذ ما بالذات مكان ما بالعرض و ذلك لأن حقيقة النفس و ماهيتها ليست كما تصورها من أن لها في نفسها لنفسها وجودا تاما و قد عرض لها بعد تمام وجودها التي يخصها- أن تتصرف في جسم من الأجسام و تدبره و تحركه و تنميه و تكمله و تطعمه و تسقيه- كمن تصرف في بناء أو غرس شجرة يقوم بتكميله و تعميره بإدخال أجسام أخرى كالتراب و الماء إليه حتى يبلغ إلى كماله فيكمله و يستكمل هو أيضا تكميلا و استكمالا عرضيين خارجيين عن هوية ذاته هيهات إن النفس ما دامت هي نفسا لها وجود ذاتي تعلقي هي مفتقرة في هذا الوجود الذاتي إلى البدن متقومة بحسب بعض قواها الحسية و الطبيعية به متعلقة به ضربا من التعلق.

و بالجملة تصرف النفس في البدن تصرف ذاتي و هو نحو موجودية النفس كما أن تكميل الصورة للمادة تعلق ذاتي لها و هو نحو وجودها و كما أن حلول العرض كالبياض في الجسم هو نحو وجوده و لا يلزم «1» من ذلك أن يكون النفس و لا الصورة و لا العرض واقعة تحت مقولة المضاف لما علمت سابقا فزوال التصرف في البدن من النفس- هو بعينه زوال وجودها في نفسها أو مساوق له إلا أن يستحيل إلى مقام صار وجودها بعينه هو وجودها لذاتها أو لعقلها المفارق و حينئذ لم يكن نفسا بل شيئا أرفع وجودا منها كما أنها قبل بلوغ الصورة الطبيعية و هي كمال أول لجسم طبيعي إلى مقام «1» النفسية كان شيئا أخس وجودا و أدون مرتبة من النفس.

و أما ما ذكره بعض الفضلاء في استحالة تقدم النفس على البدن من أنها لو تقدمت على البدن لكان شي‏ء واحد مفارقا و مخالطا للمادة و محال أن يكون الشي‏ء الواحد مفارقا و مخالطا فمحال تقدم النفس على البدن فغير صحيح على هذا الوجه لا لما ذكره جماعة من أهل العلم منهم الشيخ المقتول في كتاب المشارع و المطارحات من أن النفس ليست بمخالطة للمادة فلا يجري فيه ذلك الكلام بل يتوجه ذلك على الصور و الأعراض و لا لما قيل إن المخالطة ليست إلا لعلاقة البدنية فلا يلزم مما ذكره القائل إلا كون شي‏ء واحد مجردا عن العلاقة و ذا علاقة و هذا على هذا الوجه إنما يمتنع إذا كان التجرد و العلاقة وقعا معا فيستحيل اجتماعهما أما العلاقة في وقت و التجرد وقت آخر فهو غير محال بل واقع كما للنفس قبل الموت و بعده أما بطلان الأول فلما علمت أن النفس في أول حدوثها صورة مادية ثم تصير مجردة فثبت كون شي‏ء واحد مخالطا و مفارقا فليجز في عكسه و أما بطلان الثاني فلأن نفسية النفس و علاقتها بالبدن هذه العلاقة أمر ذاتي لها و هو نحو من أنحاء وجود الشي‏ء بالذات و لهذا قسموا الجوهر إلى أقسام هي أنواع محصلة لمقولة الجوهر و عدوا من تلك الأنواع النفس نوعا قسيما للعقل فعلم أن النفس ليست ذاتا شخصية تامة مفارقة الذات ثم قد عرضت لها التعلق بالبدن كتعلق صاحب الدكان بدكانه- بإضافة زائدة عليه.

فالحل و التحقيق كما ذهبنا إليه من أن كون الشي‏ء مفارقا عن المادة و مخالطا لها إنما يستحيل فيما لا يتبدل أنحاء وجوداته و نشآته فالنفس قبل التعلق بالبدن لها نحو من الوجود و مع التعلق نحو آخر و بعد التعلق نحو آخر و ليس بين هذه الوجودات الثلاثة مباينة تامة لأن بينها علية «1» و معلولية و وجود العلة لا يغاير وجود المعلول- إلا بالكمال و النقص و لا وجوده يغاير وجودها إلا بالنقص و الكمال فتأمل.

و بالجملة فللنفس الإنسانية نشآت بعضها سابقة و بعضها لاحقة فالنشآت السابقة على الإنسانية كالحيوانية و النباتية و الجمادية و الطبيعة العنصرية و النشآت اللاحقة كالعقل المنفعل و الذي بعده العقل بالفعل و بعده العقل الفعال و ما فوقه.

نقل كلام لتشييد مرام: قد تمسك بعض الأفاضل على قدم النفس بأنها لو كانت حادثة- لافتقرت إلى علة بها يجب وجودها و هذه العلة إما أن تكون موجودة قبل حدوث النفس أو لا يكون كذلك و الأول يقتضي أن تكون النفس موجودة قبل وجودها لاستحالة تخلف المعلول عن علته التامة و هو محال و الثاني لا يخلو إما أن تكون تلك العلة بسيطة أو مركبة لا جائز أن تكون بسيطة و إلا لافتقرت من حيث إنها حادثة إلى علة أخرى حادثة و من حيث إنها بسيطة إلى أن تكون علتها بسيطة- أما الأول فلأنه لو لم يكن للحادث علة حادثة لكان إما أن لا يفتقر إلى علة أصلا و هو ظاهر البطلان أو تكون مفتقرة إلى علة دائمة و حينئذ يكون وجوده في بعض الأحوال دون بعض ترجيحا من غير مرجح و بطلانه ظاهر أيضا و أما الثاني فلأنه لو كان للبسيط علة مركبة فإن استقل كل واحد من أجزائها بالتأثير فيه فلا يمكن استناد المعلول إلى الباقي و إلا إن كان له تأثير في شي‏ء من المعلول و للباقي تأثير في باقيه كان المعلول مركبا و إن لم يكن لشي‏ء منها تأثير فيه فإن حصل لها عند الاجتماع أمر زائد هو العلة- فإن كان عدميا لم يكن مستقلا بالتأثير في الوجود و إن كان وجوديا لزم التسلسل في صدوره عن المركب إن كان بسيطا و في صدور البسيط عنه إن كان مركبا و إن لم يحصل بقيت مثل ما كانت قبل الاجتماع فلا يكون الكل مؤثرا و قد فرض مؤثرا هذا خلف- لا جائز أن تكون تلك العلة مركبة لما تقدم أن كلما علته التامة مركبة فهو مركب- لكن النفس يستحيل أن تكون مركبة فلا تكون علتها كذلك انتهى كلامه.

قال العلامة الشيرازي معترضا عليه لا يخفى أن كلامه مبني على امتناع صدور البسيط عن المركب و قد علمت ما عليه في أواخر المنطق عند الكلام على قاعدة يجوز أن يكون للشي‏ء البسيط علة مركبة.

أقول قد علمت منا في كلامنا على القاعدة المذكورة أجوبة جميع ما ذكره هو و غيره- و حل ما عقدوه في تجويز تلك القاعدة و تصحيحها من النقض الإجمالي على حجة فسادها- و المناقضة و المعارضة في مباحث العلة و المعلول من هذا الكتاب فارجع إلى النظر فيها إن اشتهيت حتى يظهر لك حقية أن المعلول البسيط لا يمكن أن يكون له علة مركبة و مع ذلك لا يلزم من ذلك قدم النفس بما هي نفس لأنها غير بسيطة الحقيقة و كذا كل ما يوجد في الزمان و الحركة كالطبائع الصورية و غيرها و الله ولي الإنعام

فصل (4) في أن النفس لا تفسد بفساد البدن استدلت الحكماء عليه كما قرره الشيخ و غيره بأن النفس يجب حدوثها عند حدوث البدن فلا يخلو إما أن يكونا معا في الوجود أو لأحدهما تقدم على الآخر- فإن كانا معا فلا يخلو إما أن يكونا معا في الماهية أو لا في الماهية و الأول باطل- و إلا لكانت النفس و البدن مضافين لكنهما جوهران هذا خلف و إن كانت المعية في الوجود فقط من غير أن يكون لأحدهما حاجة إلى الآخر فعدم كل منهما يوجب عدم تلك المعية لها و لا يوجب عدم الآخر و إما أن يكون لأحدهما حاجة إلى الآخر في الوجود فلا يخلو إما أن يكون المتقدم هو النفس أو البدن فإن كان المتقدم في الوجود هو النفس فذلك التقدم إما أن يكون زمانيا «1» أو ذاتيا و الأول باطل لما ثبت أن النفس ليست موجودة قبل البدن و أما الثاني فباطل أيضا لأن كل موجود يكون وجوده معلول شي‏ء كان عدمه معلول عدم ذلك الشي‏ء إذ لو انعدم ذلك المعلول مع بقاء العلة لم تكن العلة كافية في إيجابه فلم تكن العلة علة بل جزءا من العلة هذا خلف فإذن لو كان البدن معلولا للنفس لامتنع عدم البدن إلا لعدم النفس و التالي باطل لأن البدن قد ينعدم لأسباب أخر مثل سوء المزاج أو سوء التركيب أو تفرق الاتصال فبطل أن يكون النفس علة للبدن و باطل أيضا أن يكون البدن علة للنفس لأن العلل أربع و محال أن يكون فاعلا لها فإنه لا يخلو إما أن يكون علة فاعلية لوجود النفس بمجرد جسميته أو لأمر زائد على جسميته و الأول باطل و إلا لكان كل جسم كذلك و الثاني أيضا باطل أما أولا فلما ثبت أن الصورة المادية إنما تفعل ما تفعل بواسطة الوضع و كلما لا يوجد «1» إلا بواسطة الوضع استحال أن يفعل فعلا مجردا عن الوضع و الحيز و أما ثانيا فلأن الصورة المادية أضعف من المجرد القائم بنفسه و الأضعف لا يكون سببا للأقوى و محال أن يكون علة قابلية لما ثبت أن النفس مجردة و مستغنية عن المادة و محال أن يكون البدن علة صورية للنفس أو غائية فإن الأمر أولى أن يكون بالعكس فإذن ليس بين البدن و النفس علاقة واجبة الثبوت أصلا فلا يكون عدم أحدهما علة لعدم الآخر.

فإن قيل أ لستم جعلتم البدن علة لحدوث النفس و الحدوث هو الوجود المسبوق بالعدم فإذا كان البدن شرطا لوجود النفس فليكن عدمه علة لعدمها.

فقالوا «2» إنا قد بينا أن الفاعل إذا كان منزها عن التغير ثم صدر الفعل عنه بعد أن كان غير صادر فلا بد و أن يكون وجوده في ذلك الوقت لأجل أن شرط الحدوث قد حصل في ذلك الوقت دون ما قبله ثم إن ذلك الشرط لما كان شرطا للحدوث و كان غنيا في وجوده عن ذلك الشرط استحال أن يكون عدم الشرط مؤثرا في عدم ذلك الشي‏ء ثم لما اتفق «3» أن يكون ذلك الشرط مستعدا لأن يكون آلة للنفس في تحصيل كمالاتها و النفس لذاتها مشتاقة إلى الكمال لا جرم حصل لها شوق طبيعي إلى التصرف في ذلك البدن و التدبير فيه على الوجه الأصلح و مثل ذلك لا يمكن أن يكون عدمه علة لعدم الحادث هذا صورة ما قرره المتأخرون كالشيخ الرئيس و من في طبقته. أقول و فيه مساهلات و مواضع أنظار أما في الاستدلال فنقول إن القول بأن الصحابة بين النفس و البدن مجرد معية اتفاقية ليس بينهما علاقة ذاتية قول باطل و معتقد سخيف كيف و هم قد صرحوا بأن النفس صورة كمالية للبدن و قد عرفوه بأنها كمال أول لجسم طبيعي آلي ذي حياة و حكموا بحصول نوع طبيعي له حد نوعي من جنس و فصل ذاتيين كالإنسان و الفلك و غيره و مثل ذلك التركيب يمتنع أن يكون يحصل من أمرين ليس بينهما علاقة العلية و المعلولية.

فالحق أن بينهما علاقة لزومية لا كمعية المتضايفين و لا كمعية معلولي علة واحدة في الوجود لا يكون بينهما ربط و تعلق بل كمعية شيئين متلازمين بوجه كالمادة و الصورة و التلازم الذي بينهما كما علمت في مبحث التلازم بين الهيولى الأولى و الصورة الجرمية فلكل منها حاجة إلى الآخر على وجه غير دائر دورا مستحيلا فالبدن محتاج في تحققه إلى النفس لا بخصوصها بل إلى مطلقها «1» و النفس مفتقرة إلى البدن لا من حيث حقيقتها المطلقة العقلية بل من حيث وجود تعينها الشخصية و حدوث هويتها النفسية.

إذا تقرر هذا فنقول قولهم فإن كان المتقدم في الوجود هو النفس فذلك التقدم إما زماني أو ذاتي. قلنا إن تقدمها على البدن ذاتي.

قولهم لو كان كذلك لامتنع عدمه إلا بعدمها. قلنا الأمر هكذا فإن البدن بما هو بدن مستعد امتنع عدمه مع وجود النفس- و لا وجوده مع عدمها و الذي يبقى بعد النفس و ما يجري مجراها في نوعها على الإطلاق- ليس ببدن أصلا بل جسم من نوع آخر بل البدن بما هو بدن مشروط بتعلق النفس- و النفس شريكة علة البدن. فليس لأحد أن يقول لو كانت النفس علة للبدن لم تكن في فعلها مفتقرة إلى البدن لأن «1» توسيط المادة بوضعها في تأثير الفاعل في تلك المادة غير معقول فإذا لم تكن النفس في فعلها و لا في ذاتها مفتقرة إلى المادة لم تكن نفسا بل عقلا.

لأنا نقول النفس و كل صورة سواء كانت مادية الوجود أو مادية الفعل فإنما يؤثر في نفس تلك المادة و حالاتها لا على وجه الاستقلال أو بخصوصها بل على وجه الشركة مع الأمر المفارق بحسب طبيعتها المطلقة فالنفس بما هي طبيعة نفسانية مطلقة مع انحفاظ وحدتها المتبدلة بواحد عقلي ثابت علة مقيمة للبدن و هي بحسب كل خصوصية لها مفتقرة إلى البدن افتقار الصورة في أحوالها المشخصة إلى المادة القابلة.

و قولهم و الثاني أي كون البدن علة للنفس باطل لأن العلل أربع إلخ. قلنا نختار أن البدن علة مادية للنفس بما هي لها وجود نفساني و قد سبق أن نفسية النفس أي كونها بحيث تتصرف في البدن و تستكمل أمر ذاتي لها و وجود حقيقي لها و ليست النفسية لهذا الوجود كالعوارض التي تلحق الشي‏ء بعد تمام ذاتها و هويتها- بل كونها نفسا ككون الصورة صورة و المادة مادة من حيث إن المسمى و المفهوم الإضافي- موجود بوجود واحد و ككون الواجب صانع العالم و كما أن عالمية الباري بالأشياء- و قدرته على الكل ليست بأمر زائد على ذاته فكذا نفسية النفس ما دام وجودها هذا الوجود التدبيري ليست بأمر زائد في الوجود على وجود النفس بل زيادتها بحسب المفهوم و الماهية.

فقولهم في نفي كون البدن علة مادية إن النفس مجردة و المجرد مستغن عن المادة- فنقول المجرد و هو الذي يكون عقلا بالفعل لا تعلق له بالأجسام أصلا و ليست النفس كذلك فالدليل المذكور إن أقيم على أن الذات العقلية التي وجودها وجود عقلي لذاتها و لا تعلق لها بالأجسام لا يفسد بفساد البدن فذلك بين واضح و لكن كون الشي‏ء عقلا مفارقا ينافي كونه نفسا مدبرا للبدن الجزئي المعين على وجه ينفعل و يستكمل به ضربا من الانفعال و الاستكمال و قد علمت أن ليس بين النفس و البدن مجرد معية كالحجر الموضوع بجنب الإنسان بل هي صورة كمالية للبدن و نفس له و يتركب منهما نوع طبيعي و مثل هذا الأمر كيف يكون مفارقا عن الأجسام و المفارق ليس وجوده هذا الوجود التعلقي و ليس كون البدن آلة لها ككون المنحت و المنشار آلة للنجار- حتى يستعملها تارة و يتركها أخرى و الذات المستعملة هي كما هي من قبل و من بعد و لا كونها في البدن ككون الربان في السفينة و صاحب الدار في الدار تدخل فيها و تخرج عنها و السفينة بحالها و الدار بحالها فالدليل المذكور لم يدل على بقاء النفس ما دام وجودها النفساني بعد البدن نعم قد دل على أن الجوهر المفارق العقلي- غير فاسد بفساد البدن.

بقي النظر في أن النفوس بعضها أو كلها هل يستحيل وجودها إلى وجود جوهر- لا تعلق له بالجسم و لا حاجة إلى استعماله و الاستكمال به و بقي الكلام في كيفية هذا التحول و الانقلاب الجوهري و طرو حالة بها يصير الجوهر المتعلق الوجود بالمادة جوهرا مفارقا عنها و ستعلم كيفية هذا عن قريب.

و أما الذي ذكروه من أن الفاعل إذا كان منزها عن التغير كان صدور الفعل عنه في وقت دون ما قبله موقوفا على شرط و شرط الحدوث لأمر غني في وجوده عن ذلك الشرط استحال أن يكون عدمه مستلزما لعدم ذلك الفعل أو مؤثرا فيه كلام لا فائدة فيه فإن حدوث «1» الشي‏ء ليس إلا وجوده الخاص به و ليس حدوث الوجود صفة زائدة على الوجود عارضة له حتى يكون شرطها غير شرط الوجود بل شرط الحدوث و شرط الوجود واحد فإذا عدم «2» الشرط عدم المشروط.

و أيضا لا معنى لكون أمر مادي استعدادا أو شرطا لوجود جوهر مفارق الذات غني الوجود عن المواد و أحوالها كما هو عندهم و بالجملة استعداد «1» المادة لا يكون إلا لما يكون حالا من أحوالها و لا معنى لكون الشي‏ء مستعدا لأمر مباين الذات عنه- فكن مترقبا لما يتلى عليك إن شاء الله تعالي.

فصل (5) في أن «2» الفساد على النفس محال ذكروا في بيانه حجتين إحداهما أن النفس ممكنة الوجود و كل ممكن فله سبب في وجوده فللنفس سبب و السبب ما دام يبقى موجودا مع جميع الجهات التي باعتبارها كان سببا استحال انعدام المسبب كما سبق ذكره في مباحث العلة و المعلول فالنفس لو انعدمت لكان انعدامها بسبب انعدام سببها أو شي‏ء من أجزاء سببها التام و الأسباب أربعة- و يستحيل انعدامها لانعدام سببها الفاعلي لأن السبب الفاعلي لها كما سنبين جوهر عقلي مفارق الذات من جميع الوجوه عن المادة فيمتنع عدمه لأن الكلام فيه كالكلام في النفس و محال أن يكون انعدامها لانعدام السبب المادي لأنا قد بينا أن النفس ليست مادية بل مجردة و محال أن يكون لعدم السبب الصوري لأن صورة النفس بعينها ذاتها- و لأن الكلام في عدم ذلك السبب الصوري كالكلام في عدم النفس فإن كان لعدم صورة أخرى لزم التسلسل و محال أن يكون لعدم السبب التمامي لهذا الوجه أيضا فيمتنع عدم النفس مطلقا و أما الصور و الأعراض التي يصح عليها ذلك العدم فذلك لصحة «1» العدم على أحد أسبابها حتى الفاعلية لكون فاعلها القريب جائز العدم لأن حدوثها لأجل أمزجة مختلفة يفيد استعدادات مختلفة و قد سبق أن الأمر هاهنا ليس كذلك.

و ثانيتهما «1» أن كل متجدد فإنه قبل تجدده ممكن الوجود المتجدد و إلا لكان ممتنعا و الممتنع غير موجود فإذن المتجدد غير المتجدد هذا خلف و نعني بهذا الإمكان الاستعداد التام على ما عرفت و ذلك الاستعداد التام يستدعي محلا لأن الذي يوجد فيه إمكان وجود الشي‏ء هو الذي حصلت فيه قوة وجود ذلك الشي‏ء أي استعداده القريب.

إذا ثبت ذلك فنقول النفس لو صح عليها العدم لوجب أن يكون هناك شي‏ء- يوجد فيه إمكان ذلك الفساد و ذلك الشي‏ء ليس هو ذات النفس فإن النفس لا تبقى ذاتها مع الفساد و الذي فيه إمكان الفساد يجب أن يبقى مع الفساد فإذن ذلك الشي‏ء مادة النفس فيكون للنفس مادة فننقل الكلام إلى تلك المادة فإن صح عليها الفساد احتاجت إلى مادة أخرى و لزم التسلسل و هو محال و إذا انقطع التسلسل فذلك السنخ الباقي مما لا يجوز عليه الفساد و العدم و هو جزء النفس و لا يكون جزؤها الباقي ذات وضع و إلا لكانت النفس منافية لمقارنة الصور العقلية و لكانت ذات وضع و حيز و هو محال كما بين و إذا كان ذلك الشي‏ء الذي ثبت بقاؤه مجردا عن الوضع و الحيز قابلة للصور العقلية كان ذلك الجزء هو النفس بعينها إذ لا نعني بالنفس إلا جوهرا مجردا قابلا للصور العقلية فالنفس لا يصح عليها العدم. فإن قيل أ ليست لها مادة توجد فيها قوة حدوثها فلم لا يجوز أن يحصل في تلك المادة قوة فسادها. فنقول الفرق ثابت لأن الذي فيه قوة الحدوث هو البدن و ذلك مما يصح أن يبقى مع الحدوث أما الذي يوجد فيه قوة الفساد لو كان هو البدن لكان البدن باقيا مع فساد النفس و بالاتفاق البدن لا يبقى مع عدم النفس فظهر الفرق بين البابين هذا ما في مسفورات القوم و الحجتان إنما تنهضان دليلا على امتناع الفساد على جوهر بسيط- مباين الوجود عن المادة و لواحقها لا على امتناع فساد ما وجوده هذا الوجود الارتباطي التعلقي و مثل ذلك الوجود كما يمتنع فساده بفساد البدن كذلك يمتنع عدمه السابق عليه و حدوثه بحدوث البدن بل لا تجدد له أصلا فإن كل ما هو كائن فاسد و كل ما لا فساد له لا كون له و بالجملة الموجود بوجود واحد بالعدد يمتنع أن يكون حادثا و مفارقا عن المادة إلا بأن تقع له الحركة الجوهرية الاشتدادية و صيرورته مجردا بعد ما كان متعلقا.

بقي الإشكال «1» في أن وجوده التجردي كيف حدث و المجرد لا تعلق له بمادة و لا له استعداد وجود. و الجواب عنه كما سيجي‏ء حسب ما وعدناه لك و أنموذج ذلك الجواب أن صيرورة النفس مجردة ليست عبارة عن حدوث وجود أمر مجرد لها بل عبارة عن قطع وجودها التعلقي و رجوعها إلى مبدئها الأصلي فبالحقيقة حدوث الأمر المجرد لشي‏ء- عبارة عن حدوث رابطة بينهما كما قيل في حدوث «2» الحافظة للنفس و هي خزانة معقولاتها- و أما الذي ذكر هاهنا من بيان الفرق بين حامل قوة الحدوث و حامل قوة الفساد و أن البدن فيه قوة حدوث النفس لأنه يبقى معها و ليس فيه قوة الفساد إذ لا يبقى معها.

ففيه مغالطة مبناها اشتراك لفظ القبول و إطلاقه تارة بمعنى القوة الاستعدادية «3» و تارة بمعنى الانفعال و الاتصاف أو عدم الفرق بين ما بالذات و ما بالعرض فإن حامل قوة الحدوث للنفس ليس هو البدن الحي بل شي‏ء آخر كالنطفة و ما يجري مجراها- و هو غير باق عند حدوث الصورة النفسانية و البدن الباقي مع النفس هو قابل النفس بمعنى المستكمل بها الاستكمال الجزء المادي بالجزء الصوري من المركب و يجوز أن يكون هو بعينه قابل قوة الفساد لها و الذي يقبل الفساد شي‏ء آخر هو باق مع الفساد ففي قابل كل «1» من الطرفين أي الكون و الفساد اعتباران متغايران اعتبار ما منه الشي‏ء و اعتبار ما فيه الشي‏ء و إهمال الفرق بينهما مغلط فكن متيقظا فاستمع ما سيقرع سمعك يوم يناد المناد من مكان قريب.

فصل (6) في ذكر ميعاد مشرقي اعلم أن المحقق الفاضل أفضل المتأخرين نصير الدين محمد الطوسي ره قد بعث رسالة إلى بعض معاصريه من العلماء هو العالم النحرير شمس الدين الخسرو شاهي و سأل عنه بعض المسائل المعضلة طالبا للكشف عن وجوه إعضالها و حل عقد إشكالها فلم يأت ذلك المعاصر بجواب و كانت مسألة بقاء النفس بعد البدن إحدى تلك المسائل غير المجابة و قد قررها بقوله ما بال القائلين بأن ما لا حامل لإمكان وجوده و عدمه فإنه لا يمكن أن يوجد بعد العدم أو يعدم بعد الوجود حكموا بحدوث النفس الإنسانية و امتنعوا عن تجويز فنائها- فإن جعلوا حامل إمكان وجودها البدن فهلا جعلوه حامل إمكان عدمها أيضا و إن جعلوها لأجل تجردها عما يحل فيه عادم حامل لإمكان العدم كيلا يجوز عدمها بعد الوجود فهلا جعلوها لأجل ذلك بعينه عادم حامل لإمكان الوجود فيمتنع وجودها بعد العدم في الأصل- و كيف «2» ساغ لهم أن جعلوا جسما ماديا حاملا لإمكان وجود جوهر مفارق مباين الذات إياه فإن جعلوها من حيث كونها مبدأ لصورة نوعية لذلك الجسم ذات حامل- لإمكان الوجود فهلا جعلوها من تلك الحيثية بعينها ذات حامل لإمكان العدم و بالجملة ما الفرق بين الأمرين في تساوي النسبتين هذا ما ذكره بعبارته المنقحة الواضحة الدالة على أن ما أجيب عن هذا الإشكال في الكتب حتى في شرحه للإشارات غير مشبع و لا تام عنده.

و نحن قد أجبنا «1» عن هذا السؤال في سالف الزمان بأن البدن الإنساني- استدعى باستعداده الخاص من واهب الصور على القوابل صورة مدبرة متصرفة فيه تصرفا يحفظ به شخصه و نوعه فوجب صدورها عن الواهب الفياض لكن وجود صورة يكون مصدرا للتدابير البشرية و الأفاعيل الإنسية الحافظة لهذا المزاج الاعتدالي لا يمكن إلا بقوة «2» روحانية ذات إدراك و عقل و فكر و تميز فلا محالة تفيض من المبدإ الفياض الذي لا بخل و لا منع فيه جوهر النفس و حقيقتها فإذن وجود البدن بإمكانه الاستعدادي- ما يستدعي إلا صورة مقارنة له متصرفة فيه بما هي صورة مقارنة و لكن جود المبدإ الفياض- اقتضى صورة متصرفة ذات حقيقة مفارقة أو ذات مبدإ مفارق و كما أن الشي‏ء الواحد- يجوز أن يكون جوهرا من جهة و عرضا من جهة أخرى كالصورة الجوهرية الحاصلة في الذهن لما تقرر عندهم أنها جوهر مستغن عن الموضوع بحسب الماهية و عرض مفتقر إليه بحسب هذا الوجود الذهني العلمي بل كيف نفساني عندهم و كذا يجوز أن يكون شي‏ء واحد مجعولا من جهة غير مجعول من جهة أخرى كالوجود و الماهية لشي‏ء واحد فكذلك يجوز أن يكون شي‏ء واحد كالنفس الإنسانية مجردا من حيث كونه ذاتا عقلية أو له ذات عقلية ماديا من حيث كونه متصرفا في البدن أو له قوة متصرفة في البدن فإذا كانت النفس مجردة من حيث الذات و مادية من حيث الفعل فهي من حيث الفعل مسبوقة باستعداد البدن حادثة بحدوثه زائلة بزواله و أما من حيث حقيقتها الأصلية أو مبدإ حقيقتها فغير مسبوقة باستعداد البدن إلا بالعرض و لا فاسدة بفساده و لا يلحقها شي‏ء من نقائص الماديات إلا بالعرض فتدبر.

هذا ما سنح لنا في سالف الزمان على طريقة أهل النظر مع فضل تنقيح و أما الذي نراه الآن أن نذكر في دفع هذا السؤال و حل الإعضال فهو أن للنفس الإنسانية مقامات و نشآت ذاتية بعضها من عالم الأمر و التدبير قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي و بعضها من عالم الخلق و التصوير مِنْها خَلَقْناكُمْ وَ فِيها نُعِيدُكُمْ وَ مِنْها نُخْرِجُكُمْ «1» فالحدوث و التجدد إنما يطرءان لبعض نشآتها فنقول لما كانت للنفس الإنسانية ترقيات و تحولات من نشأة أولى إلى نشأة أخرى كما أشير إليه «1» بقوله تعالى وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ- ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فإذا ترقت و تحولت و بعثت من عالم الخلق إلى عالم الأمر يصير وجوده وجودا مفارقا عقليا لا يحتاج حينئذ إلى البدن و أحواله و استعداده- فزوال استعداد البدن إياها يضرها ذاتا و بقاء بل تعلقا و تصرفا إذ ليس وجودها «2» الحدوثي هو وجودها البقائي لأن ذلك مادي و هذا مفارق عن المادة فليس حالها عند حدوثها كحالها عند استكمالها و مصيرها إلى المبدإ الفعال فهي بالحقيقة جسمانية الحدوث روحانية البقاء و مثالها كمثال الطفل و حاجته إلى الرحم أولا و استغنائه عنه أخيرا لتبدل الوجود عليه و كمثال الصيد و الحاجة في اصطياده إلى الشبكة أولا- و الاستغناء في بقائه عند الصياد أخيرا ففساد الرحم و الشبكة لا ينافي بقاء المولود و الصيد و لا يضره و أيضا حاجة الشي‏ء إلى أمر ما لا يستلزم حاجة لوازمه الذاتية إليه كحاجة الوجود المعلولي إلى جاعل دون ماهيته لأنها غير مجعولة كما مر مع أنه من لوازم الوجود و ككون وجود المثلث معلولا و عدم كونه ذا الزوايا الثلاث معلولا.

ثم اعلم أن العلة المعدة علة بالعرض عند التحقيق و ليست عليتها كعلية العلل الموجبة حتى يقتضي زوالها زوال المعلول و ما ذكروه من قولهم كل ما لا حامل لإمكان وجوده أو عدمه فإنه لا يمكن أن يوجد بعد العدم أو يعدم بعد الوجود لا يستلزم «1» القول بأن ما لا حامل لإمكان وجوده و عدمه لا يمكن أن يوجد بعد الوجود إذ ربما يكون وجوده السابق من غير حامل «2» كافيا في رجحان وجوده اللاحق و ذلك إذا كان وجوده اللاحق طورا آخر من الوجود بأن يكون كمالا و تماما لوجوده السابق و من نظر في مراتب الأكوان الاشتدادية لموجود كوني كالسواد في اشتداده و كحرارة الفحم في اشتدادها وجد أن حامل إمكان كل فرد ضعيف و قوته يزول عنه ذلك الإمكان و لا يزول حقيقة ذلك الفرد بل يشتد و إنما يزول نقصه و ضعفه فلا يلزم في الحركات الاستكمالية أن يكون زوال إمكان الشي‏ء و استعداده منشأ لزوال وجوده بل لتبدل وجوده و تبدل وجود الشي‏ء قد يكون إلى عدمه و قد يكون إلى وجود أقوى و أكمل من وجوده المتقدم و من هذا القبيل بطلان استعداد البدن للنفس لا يستدعي إلا زوال وجودها البدني المفتقر إلى مادة البدن و زوال وجودها الأولى و تبدله لا يلزم أن يكون بطريان العدم عليه بل بطريان الوجود الأقوى لها فالقاعدة المذكورة أي كون ما هو حامل لإمكان وجود الشي‏ء فزواله أو زوال استعداده يستدعي زوال ذلك الوجود بعينه حقة لا شبهة فيه لكن زوال كل وجود خاص بخصوصه لا يلزم إلى عدم مطلق له بل ربما يكون تبدله إلى نحو آخر من الوجود كما في الاستحالات «3».

فإن قلت ننقل الكلام إلى حدوث ذلك الوجود المفارقي للنفس كيف حدث لها و كل حادث يفتقر إلى مادة و المجرد لا مادة له.

قلت الحادث هاهنا ليس في الحقيقة إلا اتصال النفس بذلك المفارق و انقلابها إليه- لا نفس وجود ذلك المفارق و ذلك الاتصال أو الوجود الرابطي أو ما شئت فسمه حدوثه مسبوق بالاستعداد و حامل هذا «1» الاستعداد هو النفس ما دامت متعلقة بالبدن و حامل فعلية ذلك الاتصال هو النفس عند اتحادها بالعقل و قد مر أن حامل قوة الشي‏ء غير حامل وجوده و إن وجب أن لا يكون مباينا صرفا أيضا.

ثم إن الحكماء الإلهيين قد أثبتوا للطبائع حركة جبلية إلى غايات ذاتية كما مر غير مرة و أثبتوا لكل ناقص ميلا أو شوقا غريزيا إلى كماله و كل ناقص إذا وصل إلى كماله أو بلغ إلى إنيته اتحد به و صار وجوده وجودا آخر و هذه الحركة الجبلية- في طبيعة هذا النوع الإنساني إلى جانب القدس معلوم مشاهد لصاحب البصيرة فإذا بلغت النفس في استكمالاتها و توجهاتها إلى مقام العقل و تحولت عقلا محضا اتحدت بالعقل الفعال و صارت عقلا فعالا بل ما كانت عقلا منفعلا أي نفسا و خيالا فزالت عن المادة و سلبت «1» عنها القوة و الإمكان و صارت باقية ببقاء الله سبحانه.

و بالجملة تحقيق هذا المبحث و تنقيحه لا يتيسر إلا من عرف كيفية اتحاد النفس بالعقل الفعال و مصير الأشياء في المبدإ المتعال و ذلك ميسر لما خلق له و اعلم أن نشأة الوجود متلاحقة متفاضلة و مع تفاوتها متصلة بعضها ببعض و نهاية كل مرتبة بداية مرتبة أخرى و آخر درجات هذه النشأة التعلقية أول درجات النشأة التجردية و عالم التجرد المحض ليس فيه حدوث و تغير و سنوح حالة فلا يتغير ذلك العالم بدخول النفس إليه كما لا يتغير بصدورها منه كما علمت في الفصل السابق فورود النفس إلى ذلك العالم بنحو صدورها منه بلا استحالة و تجدد فعليك بالتأمل الصادق و التفطن اللائق كي تدرك ما ذكرناه متنورا بيت قلبك بإشراق نور المعرفة على أرجائه من عالم الإفاضة و الإلهام- و الله يدعو إلى دار السلام.

فصل (7) في أن سبب النفس الناطقة أمر مفارق عقلي

قد سبق فيما مضى أن علة النفوس لا يجوز أن يكون هي الجسم بما هو جسم- و إلا لكان كل جسم كذلك و لا أيضا يجوز أن يكون قوة جسمانية لأن تلك القوة- لا يخلو إما أن يحتاج في وجوده إلى ذلك الجسم أو لا يحتاج إليه في وجوده بل في «2» تأثيره فقط و كلا الشقين ممتنع فتأثيرها في وجود النفس ممتنع و قد فرضت مؤثرة هذا خلف أما بطلان الأول فلوجوه.

أما أولا فلأن الصورة الجسمانية إذا فعلت في شي‏ء كان فعلها لمشاركة القابل- و القابل هو الجسم و الجسم ممتنع أن يكون جزءا من المؤثر كما مضى تحقيق هذا الوجه.

و أما ثانيا فلأن الصورة الجسمانية إنما تؤثر بواسطة الوضع و حيثيته لأن «1» حيثية الوضع داخلة في قوام وجوده الجسمي و يمتنع حصول الوضع بالقياس إلى ما لا وضع له.

و أما ثالثا فلأن العلة أتم و أقوى من المعلول و الجسماني أضعف وجودا من المجرد- لأن وجوده قائم بالمادة و وجود المجرد مستغن عنه فإذن المؤثر في النفس يمتنع أن يكون محتاجا إلى الجسم في وجوده.

و أما بطلان الثاني و هو أن يكون تلك القوة الموجدة للنفس غير محتاجة إلى الجسم في وجودها بل في موجديتها فلأن الذي يحتاج في فاعليته إلى الجسم هو الذي يفعل فعلا يمكن أن يكون ذلك الجسم آلة متوسطة بينه و بين معلوله و توسيط الجسم لا يتصور إلا من جهة وضعه و مقداره إذ جسمية الجسم بالوضع و المقدار فلا محالة يختلف نسبته بالقرب و البعد إلى ما يؤثر فيه و بحسبهما يختلف تأثيره فتأثيره في شي‏ء يتوقف على أن يكون ذلك الشي‏ء قريبا منه ضربا من القرب إذ لو لم يتوقف على القرب و لم يتفاوت تأثيره بتفاوت درجات القرب وجب أن يكون تأثيره في القريب كتأثيره في البعيد- فلا يكون لذلك الجسم دخلا في التأثير لأن وجود الجسم و نحو تشخصه إنما يكون بوضع خاص له فإن كان التأثير في القريب من ذلك الجسم قبل تأثيره في البعيد عنه- وجب أن يكون ذلك الفعل مما يصح عليه القرب و البعد فلا يكون أمرا مجردا روحانيا فإذن كلما يفعل بمشاركة الجسم و بواسطته فهو ذو وضع و ينعكس انعكاس النقيض إن ما لا يكون ذا وضع امتنع أن يكون بواسطة الجسم و النفس مما لا وضع له- فإذن لا يمكن أن يوجد بواسطة الجسم فإذن فاعل النفس غني في ذاته و فاعليته عن المادة فالفاعل للنفس الناطقة أمر قدسي مفارق عن المادة و علائقها سواء كان صورة أو نفسا أخرى و ذلك الأمر المفارق هو المسمى بالعقل الفعال عند الحكماء- و عند الأوائل و عظماء الفرس سمى روان‏بخش بلغتهم و وجه التسمية بالعقل أنه صورة مجردة معقولة لذاته بذاته فإن كل مجرد عن المادة كما مر في مباحث العقل و المعقول- يجب أن يكون عاقلا لذاته و أن عقله لذاته نفس وجود ذاته لا لأجل حضور صورة أخرى فذاته عقل و عاقل و معقول و إنما سمي بالفعال لوجوه ثلاثة- أحدها أنه موجد أنفسنا و مخرجها من حد العقل بالقوة إلى حد العقل بالفعل- و ثانيها أنه «1» بالفعل من جميع الوجوه ليس فيه شي‏ء بالقوة و هو كل المعقولات- بل كل الموجودات بوجودها العقلي فأطلقوا عليه فعال مبالغة في الفعل فعلى هذا كل عقل فعال.

و ثالثها «2» أنه الموجد لهذا العالم و مبدأ صورها الفائضة منه على موادها. و أما بيان أن ذلك الأمر ليس هو إله العالم واجب الوجود فهو لأنه آخر المفارقات العقلية الذي فيه شوب كثرة و الباري واحد حق في غاية العظمة و الجلال- و النفوس كثيرة.

فإن قلت لم لا يجوز أن يكون بعض النفوس علة لبعض كنفس الوالد في نفس المولود- قلنا قد مر فيما سبق أن تأثير النفس في شي‏ء بمشاركة الوضع فلا تأثير لها فيما لا وضع له بالقياس إليها و هذا أولى مما ذكره الشيخ في كتاب المباحثات من أن النفوس متحدة بالنوع فلو جعلنا النفس علة لوجود نفس فلا يخلو إما أن تكون واحدة- أو أكثر من واحدة فإن كانت واحدة فإما أن تكون معينة أو غير معينة و الأول محال لأنه ليس أحد المتفقين في النوع أولى بأن يكون علة للآخر دون العكس و الثاني أيضا محال لأن المعلول المعين يستدعي علة معينة و أما إن كانت كثيرة فهو باطل أيضا لأنه ليس عدد أولى من عدد فكان يجب أن يكون المؤثر في النفس الواحد جميع النفوس المفارقة و ذلك محال لأن الأقل من المجموع الحاصل في زماننا مستقل بالتأثير لأن المجموع الذي قبل زماننا أقل من هذا المجموع و كان كافيا و بعض آحاد المجموع إذا كان كافيا- لم يكن ذلك المجموع مؤثرا لما علمت من امتناع توارد العلتين المستقلتين على معلول واحد فإذن لا يمكن تعليل النفس بمجموع السابقة و لا ببعض آحادها دون بعض- فإذن يمتنع استناد وجود النفس إلى شي‏ء من ذلك و هو المطلوب لأن هذه الحجة مبتنية على اتحاد النفوس في الماهية و هي عندنا كما سيجي‏ء من أحوالها متخالفة الأنواع- بسبب رسوخ ملكاتها و أخلاقها الملكية أو الشيطانية أو البهيمية أو السبعية و إن كانت متحدة النوع في أول نشآتها و سزاجة ذاتها القابلة للهيئات و العلوم فلو كانت بعض النفوس- بعد خروجها في شي‏ء من الملكات من القوة إلى الفعل علة لبعض لم يلزم «1» ما ذكر.

 

 

الباب العاشر في تحقيق المعاد الروحاني و الإشارة إلى السعادة العقلية و الشقاوة التي بإزائها و إلى السعادة و الشقاوة الغير الحقيقيتين و ما قيل في بيانهما و فيه فصول.

فصل (1) في ماهية السعادة الحقيقية اعلم أن الوجود هو الخير و السعادة و الشعور «1» بالوجود أيضا خير و سعادة- لكن الوجودات متفاضلة متفاوتة بالكمال و النقص فكلما كان الوجود أتم كان خلوصه عن العدم أكثر و السعادة فيه أوفر و كلما كان أنقص كان مخالطته بالشر و الشقاوة أكثر و أكمل الوجودات و أشرفها هو الحق الأول و يليه المفارقات العقلية و بعدها النفوس و أدون الموجودات هي الهيولى الأولى و الزمان و الحركة ثم الصور الجسمية ثم الطبائع ثم النفوس وجود كل شي‏ء لذيذ عنده و لو حصل له وجود سببه و مقومه له لكان ألذ لأنه وجوده فيكون كمال لذته بإدراكه و حيث كانت الوجودات متفاوتة- فالسعادات التي هي إدراكاتها تكون متفاضلة أيضا و كما أن وجود القوى العقلية- أشرف من وجود القوى الحيوانية الشهوية و الغضبية التي هي نفوس البهائم و السباع- و غيرهما من الحيوانات فسعادتها أجل و لذتها و عشقها أتم فنفوسنا إذا استكملت و قويت و بطلت علاقتها بالبدن و رجعت إلى ذاتها الحقيقية و ذات مبدعها تكون لها من البهجة و السعادة ما لا يمكن أن يوصف أو يقاس به اللذات الحسية و ذلك لأن أسباب هذه اللذة أقوى و أتم و أكثر و ألزم للذات المبتهجة أما أنها أقوى فلأن أسباب اللذة هي الإدراك و المدرك و المدرك و قوة الإدراك «1» بقوة المدرك و القوة العقلية أقوى من القوى الحسية و مدركاتها أقوى فلا جرم هي محصلة لحقيقة الشي‏ء المدرك الملائم و نائلة للبهاء المحض و الخير الصرف و الوجود الذي هو أصل كل موجود و فياض كل خير و نظام و كذلك ما بعده من الجواهر العقلية التي هي معشوقات بذواتها سواء عشقها غيرها أم لم يعشق و أما المشتهيات الحسية فإدراكها بالقوى الضعيفة الوجود الناقصة الأكوان و هو يتعلق بالظواهر و الأطراف غير متوغل إلى حقيقة الشي‏ء الملائم و المدركات هي من باب المأكولات و الملموسات و الروائح و الألوان و ما أشبهها و أما أنها أكثر فإن مدركات القوة العقلية هي كل الأشياء- و مدركات القوى الحسية هي بعضها و هو المحسوسات فقط دون المعقولات.

و أيضا ليس كل المحسوسات ملائما لذيذا للحس بل بعضها ملائم له و بعضها مناف بخلاف العقل فإن كل معقول ملائم له و به كمال ذاته و ذلك لأن الحسيات يقع فيها التضاد و المنافرة لقصور وجوداتها و قبولها النقص و الآفة و أما العقليات فلها الفسحة و السعة في الوجود من غير تزاحم و تضايق و أما أنها ألزم للذات فإن الصور العقلية إذا عقلها العقل يستكمل بها و يصير ذاته ذاتها كما علمت بل كان بعضها قبل أن يقع الشعور به مقوما «1» لذات العقل و كان غافلا عنه لاشتغاله بغيره فإذا استشعر و تنبه- يرى ذلك البهاء و الجمال في ذاته فصار مبتهجا بذاته غاية البهجة كما قال معلم الأول فصرت داخلا في ذاتي خارجا عن سائر الأشياء فأدى في ذاتي من الحسن و البهاء و السناء- ما تكل الألسن عن وصفه فوصول سبب الالتذاذ إلى هذا المستلذ العقلي أشد و أوغل إذ لا أوصل إلى الشي‏ء من ذاته إلى ذاته و هذه اللذة شبيهة بالبهجة التي للمبدإ الأول بذاته و بلذات المقربين بذواتهم و ذات مبدئهم و معلوم أن لذة الملائكة الروحانيين- بإدراكاتهم النورية فوق لذة الحمار بإدراك صورة الجماع و القضيم و نحن لا نشتهي تلك اللذات ما دمنا متعلقين بهذه الأبدان بالوجدان بل نعلمها من جهة الاستدلال و البرهان- إذ لا نتصور من ذوات المعشوقات العقلية إلا بحسب مفهومات كلية ذهنية صادقة عليها- و مفهوم الشي‏ء و ماهيته و معناه غير حقيقة وجوده و هويته العينية فإن مفهوم الحلاوة ليس حلوا و ماهية السلطنة ليست سلطانا إلا أن البرهان و العقل يدعوان إلى وجود المستلذات العقلية و معرفة العقليات في النشأة الأولى منشأ الحضور في العقبى لما مر أن المعرفة بذر المشاهدة و ذلك لأن الحجاب بيننا و بين العقليات إما عدم التفطن لها و هو الجهل «2» و إما الاشتغال بغيرها كالبدن و المواد الحسية و قواها المنطبعة فالنفس إنما تتوصل إليها باكتساب «3» العلم بحقائقها حتى تصير قوتها العقلية مستعدة بالطبع تهيؤا قريبا- لقبول صورها العقلية من المبدإ المفارق فإذا زال المانع الخارجي بالموت إذ ليس بعد المفارقة عن البدن لصاحب المعرفة إعراض عن تلك الجهة إلى جانب البدن و شواغله فيكون مجرد المعرفة باللذيذ العقلي سبب الوصول إليه و الالتذاذ به عند رفع المانع و هو الاشتغال بالبدن و قد انقطع بالموت و هذا بخلاف الشعور بالمحسوسات اللذيذة فإنه غير كاف للوصول إليها و الإحساس بها لإمكان الحجب الجسمانية بين الحواس و محسوساتها اللذيذة و السبب فيه ضيق وجودها و ضعف حصولها و فقد بعض أجزائها عن بعض و غيبته عنه فلا حضور للجسم عند نفسه و لا عند شي‏ء آخر فكذا الجسماني القائم به من الصفات و الأعراض و لهذا ليس للأجسام بما هي أجسام حياة و لا شعور و أما الأجسام الحية فليس كونها جسما هو كونها حية إنما الحياة لها بسبب كون آخر يطرأ عليها بسبب حي بالذات هو نفسها الحيوانية و لو كان وجود الجسم حياة له كان وجود كل جسم حياة له و ليس كذلك و أما ما ليس بجسم و إن كان ذا تعلق به فليس يمتنع بأن يكون وجوده بعينه حياته كالواجب تعالى و العقول و النفوس الفلكية- و الإنسانية و الحيوانية و ليست الحياة ما به يكون الشي‏ء حيا غير نفس وجوده فإنه من المستحيل أن يصير الشي‏ء بهذا الوجود ذا هذا الوجود بل حياة الشي‏ء حييته كما هو طريقتنا في باب الوجود و كذا المضاف و الأين و الاتصال في الصورة الجسمية- و النفسية في النفس و النورية في المفارقات و التقدم و التأخر الزمانيتين في الأكوان المتجددة.

و الغرض من إيراد هذا الكلام هاهنا أن يعلم أن الوجود الجسماني يصحبها الموت و الغفلة و الهجران و الفوت سواء كان هذا الوجود من طرف المدرك المشتاق أو في طرف المشتاق إليه لما فيه من قلة الحضور و الوجدان و بقدر تعلق الشي‏ء سواء كان مدركا أو مدركا كان الحضور أقل و الإدراك أنقص حتى أن شعورنا بذواتنا حين فارقنا البدن كان أشد لأن حضورنا لنا أتم و أوكد و أكثر الخلق لاستغراقهم بأبدانهم المادية و شواغلها نسوا أنفسهم كما قال تعالى نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ و ذلك لأنهم لا يشعرون بذواتهم مع هذه العلاقة الشديدة إلا مخلوطا «1» بالشعور بأبدانهم لأن اتصال النفس بالبدن و ارتباطها به كاتصال النور بالظل و الشعلة بالدخان و الشخص بالعكس إذا قابلته مرآة لأنا لا نعقل شيئا و نحن بدنيون إلا و التعقل منا يشوب بالتخيل- فإذا انقطعت العلاقة بين النفس و البدن و زال هذا الشوب صارت المعقولات مشاهدة- و الشعور بها حضورا و العلم عينا و الإدراك رؤية عقلية فكان الالتذاذ بحياتنا العقلية أتم و أفضل من كل خير و سعادة و قد عرفت أن اللذيذ بالحقيقة هو الوجود و خصوصا الوجود العقلي لخلوصه عن شوب العدم و خصوصا المعشوق الحقيقي و الكمال الأتم الواجبي لأنه حقيقة الوجود المتضمنة لجميع الجهات الوجودية فالالتذاذ به هو أفضل اللذات و أفضل الراحات بل هي الراحة التي لا ألم معها.

فصل (2) في كيفية حصول هذه السعادة و منشإ احتجاب النفس عنها ما دامت في هذا العالم اعلم أن النفس إنما تصل إلى هذه البهجة و السعادة بمزاولة أعمال و أفعال مطهرة للنفس مزيلة لكدوراتها و مهذبة لمرآة القلب عن أرجاسها و أدناسها و بمباشرة حركات فكرية و أنظار علمية محصلة لصور الأشياء و لماهياتها فإذا استكملت بحصول معرفة الأشياء في ذاتها و خرجت ذاتها من القوة العقلية الهيولانية إلى العقل بالفعل انقطعت حاجتها عن فعل الحواس و استعمال البدن و قواه و لكن لا يزال يحاذيها البدن و القوى- و يشغلها و يمنعها عن تمام «1» الاتصال و روح الوصال فإذا انحط عنه شغل البدن و وساوس الوهم و دعابة المتخيلة ارتفع الحجاب و زال المانع الخارجي و دام الاتصال لأن النفس باقية و المبدأ الفعال باق و الفيض من جهته مبذول و النفس متهيأة- و الحجابان أعني الداخلي و الخارجي مرتفعان أما الداخلي و هو قصور النفس و هيولانيتها و وغولها في البدن و اتحادها به فبخروجها من القوة إلى الفعل و صيرورتها راجعة إلى ذاتها العقلية و تميزها عن البدن و قواه غاية التميز و أما الخارجي و هو البدن و حواسه كغلاف فيه مرآة مصيقلة فبخروجها عن غلاف البدن بالموت فإن البدن و الحواس و إن احتيج إليها في ابتداء الأمر ليحصل بواسطتها الخيالات الصحيحة حتى تستنبط النفس من الخيالات المعاني المجردة و تتفطن بها و تتنبه إلى عالمها و مبدئها و معادها إذ لا يمكن لها في ابتداء النشأة التفطن بالمعارف إلا بواسطة الحواس و لهذا قيل من فقد حسا فقد علما فالحاسة نافعة في الابتداء عائقة في الانتهاء كالشبكة للصيد و الدابة المركوبة للوصول إلى المقصد ثم عند الوصول يصير عين ما كان شرطا- و معينا شاغلا و وبالا.

و اعلم أن سعادة كل قوة بنيل ما هو مقتضى ذاتها من غير عائق و حصول كمالها من غير آفة و لا شك أن كمال كل ما هو من باب نوعه و جنسه فكمال الشهوة هو حصول مشتهاها و كمال القوة الغضبية هو الغلبة و الانتقام و كمال الوهم و سعادته هو الرجاء و التمني و لكل حاسة الإحساس بالكيفية المحسوسة التي هي من نوعه- فللمس إدراك الكيفية المزاجية المعتدلة المتوسطة بين أوائل الكيفيات الأربع اعتدالا و توسطا قريبا من اعتدال اللامسة و توسطها و للذوق إدراك الطعوم المناسبة لمزاج الآلة و البدن كالحلاوات و الدسومات و غيرها و للشم الروائح الطيبة و للبصر الأنوار و الألوان و للسمع الأصوات المؤتلفة و النغمات المطربة و للخيال تصور المستحسنات و هي إما مثل المحسوسات المرتفعة إلى الخيال أو حكايات المعقولات المتنزلة إليه و للنفس بحسب ذاتها العقلية الوصول إلى العقليات الصرفة و صيرورتها موضوعة- للصور الإلهية و نظام الوجود و هيئة الكل من لدن الحق الأول إلى أدنى الوجود. و أما كمال «1» النفس و سعادتها بحسب مشاركة البدن و وقوعها في هذا العالم- و دار البدن فبحصول العدالة بصدور أفعال سائقه إليها محصلة إياها و هي أن تتوسط بين الأخلاق المتضادة فيما تشتهي و لا تشتهي و تغضب و لا تغضب لئلا تنفعل عن البدن و قواه فإن المتوسط بين الأضداد بمنزلة الخالي عنها فإن الخلو المحض و البراءة الصرفة عن آثار هذه القوى غير ممكنة للنفس ما دامت في هذا الكون الدنياوي لكن التوسط بينها بمنزلة الخلوص عنها حتى لا تنفعل عنها و لا تذعنها- بل تحصل لها هيئة استعلائية على القوى فتخدمها و تأتمر بأمرها و تنزجر بزجرها- و تطيعها في جميع ما تأتي و تذر و تأتمر و تنزجر فإن إذعان النفس للبدن و قواه- و انفعالها عنها من موجبات شقاوتها و الحرمان عن سعادتها فإن ارتباط الذي بين النفس و البدن يوجب أولا انفعال كل منهما عن صاحبه فتارة تحمل على البدن فتقهره تأييدا من الله و ملكوته و تارة تسلم للبدن و تنقهر عن قواه بإغواء الشيطان- بوساطة تلبيس الوهم و تزيينه المشتهيات الحيوانية فإذا تكرر تسليمها له انفعلت عنه انفعالا قويا و حدثت فيها هيئة انقيادية و عادة ردية حتى أنه يعسر عليها بعد ذلك ما كان لا يعسر قبل ذلك من دفع مفاسده و كف أذاه و إذا تكرر قمعها له و استعلاؤها عن انقياده حدثت فيها هيئة استعلائية يسهل بها على النفس ما لم يكن يسهل من قبل- و هذه القوة الاستعلائية أنما تحصل بأن تفعل الأفعال التي لا بد لها من فعلها ما دامت في البدن على وجه التوسط الخالي عن الإفراط و التفريط كما أن هيئة الخضوع و الدناءه أنما تحصل بوقوع الأفعال منها في الأطراف كالغلو و التقصير فإن الأطراف مؤثرات و الأوساط بخلافها فإنها في حكم اللامؤثر فأفعال التوسط بمنزلة ترك الأفعال البدنية و عدم الالتفات إليها كما أن الفاتر من الماء لا حار و لا بارد و هيئة الاستعلاء و الرفع ليست غريبة عن طبع النفس بل الملائم لطبعها هو التجرد و التفرد بذاتها و الهيئة الإذعانية كأنها غريبة عن ذاتها العقلية مستفادة من المادة التي تعلقت بها فسعادة النفس و كمالها هو الوجود الاستقلالي المجرد و التصور للمعقولات و العلم بحقائق الأشياء على ما هي عليها و مشاهدة الأمور العقلية و الذوات النورانية و لا تقاس هذه اللذات إلى ما يناله الحس من اللذات المكدرة و المشتهيات الجرمية الداثرة- و المرغوبات الكثيفة الزائلة و سبب خلونا و عدم وجداننا لذة العلوم و المعارف التي قد حصلناها و نحن في شغل البدن هو مثل التخدير الحاصل لقوة الذوق بواسطة «1» مرض بوليموس فيعوقها عن نيل لذة الطعوم و الحلاوات الموجودة عندها فلو فرض حصول المعارف العقلية التي هي مقتضى طباع القوة العقلية و خاصيتها و النفس غير مستغرقة في شغل البدن و لا مشتغلة بما تورده الحواس لكانت لذة النفس بها لذة لا يدرك الوصف كنهها فإنما لا يشتد الشوق و الابتهاج من العرفاء بمعارفهم في هذا الآن لعدم الذوق و الوجدان التام فإن اللذيذ هو وجود الملائم الخارجي لا مفهومه أو وجوده الذهني- و إنما الحاصل عند النفس هاهنا من المعلومات العقلية هو نحو وجودها الضعيف الذهني- و إنما ضعف وجودها الذي للنفس لضعف إدراك النفس لها إما لغمورها في البدن و إما لضعف تحصيل النفس إياها كما يكون بطريق الظن و القياس الغير المنتج لليقين- و إلا فهي قوية الوجود شديدة الظهور و الوضوح بحسب أنفسها لكن هذه المعرفة الضعيفة من النفس إذا كان ضعفها من جهة البدن لا من ضعف التحصيل و عدم البراهين و الحدود الذاتية تؤدي بعد رفع غشاوة البدن إلى مشاهدة المقربين و مصاحبة القديسين التي لا سعادة فوق مشاهدتهم فإن المعرفة التامة في هذه الدنيا بذر المشاهدة التامة في الآخرة كما مر فهذه اللذة العقلية لنفس كملت في هذا العالم فإن كانت منفكة عن العلوم الحقيقية منزهة عن الرذائل الخلقية ليكون مصروف الهم إلى المتخيلات فلا يبعد أن يتخيل «1» الصور الملذة الموعودة فينجر إلى مشاهدتها بعد رفع البدن كما في النوم الذي هو ضرب من الموت لأنه عبارة عن ترك استعمال بعض قواها المحركة و الحساسة- فيتمثل لها ما وصف في الجنة من المحسوسات و هذه جنة المتوسطين و سعادة الصالحين و أصحاب اليمين و تلك جنة الكاملين المقربين و بالجملة البهجة تابعة للمشاهدة و حيث يخفى قدر المشاهدة يصغر قدر البهجة- فكذلك حالنا في السعادة التي نعرف وجودها و لا نتصورها مشاهدة لكنا نعلم أنها إذا ارتاحت نفسنا في حياتنا الدنيا و آنست لذكر الله و فرحت بذكر صفاته العليا و أفعاله العظمى و كيفية ترتيب الوجود منه تعالى على أليق نظام و أحسن ترتيب على اتساق- و دوام و كمال و تمام فذلك مما يدل دلالة واضحة من جهة المناسبة على أن تنال من السعادة عند فراغها عن شواغل البدن قدرا يعتد به و خصوصا إذا أحكمت المسائل و أتقنت العلوم و المعارف على أتم وجه و أبلغه كما وقع للراسخين في العلم و أقل المراتب في اكتساب العلم التي يستحق بها الإنسان لهذه السعادة الحقيقة على وجه الظن «1» و التقريب لا على وجه النصوصية و التحديد أن يكتسب هاهنا العلم بالمبدإ الأعلى- و الوجود الذي «2» يليق به و يخصه و يعرف أيضا علمه بجميع الأشياء على وجه- لا يلزم «3» منه انفعال و قدرته على جميع المقدورات على وجه لا يوجب تغيرا و لا تكثرا في ذاته و يعرف عنايته بالأشياء الخالية عن الالتفات بغيره و عود الغرض إلى ذاته- و يعرف سعة رحمته و جوده و سائر صفاته الحقيقية على وجه لا يزيد شي‏ء منها على ذاته إلا الإضافات فإنها زائدة لكن بشرط أن يعرف أن هذه الإضافات كالقادرية و العالمية و الرازقية و المبدئية و غيرها كلها إضافة واحدة بسيطة في الوجود و إن اختلفت أساميها باختلاف الاعتبارات فكما أن جميع صفاته الحقيقية راجعة إلى الوجود المتأكد فكذلك جميع صفات الإضافية راجعة إلى الموجدية التامة كما سبق و يعرف العقول «4» الفعالة- التي هي كلمات الله التامات التي لا تبيد و لا تنفذ و ملائكته العلمية و يعرف النفوس الكلية التي هي كتبه و ملائكته العملية و يعرف ترتيب النظام في البداية و العود- و أن الوجود مترتب من الأول تعالى إلى العقل و منه إلى النفوس و منها إلى الطبائع- حتى تنتهي إلى المواد و الأجسام ثم يترتب منها صاعدا إلى المعادن ثم النبات ثم الحيوان و هلم إلى درجة العقل المستفاد فانتهى إلى ما ابتدأ منه و عاد فمن فاز بهذه المعارف فقد فاز فوزا عظيما و ينال من السعادة قدرا جسيما و خلص من الشقاوة التي منشؤها إما الإعراض عن تحصيلها مع المكنة و الاستعداد و الانحراف عن طريق الحكمة مع ملكة الشوق إلى كسب العلوم أو إنكار هذه المعلومات بالجحود و الاستكبار و العناد.

و لكن كلما يزيد على هذا المبلغ كما أو يشتد كيفا كانت سعادته أكمل و أتم فإني «1» اعلم من المشتغلين بهذه الصناعة من كان رسوخه بحيث يعلم من أحوال الوجود أمورا يقصر الأفهام الذكية عن دركها و لم يوجد مثلها في زبر المتقدمين و المتأخرين من الحكماء و العلماء لله الحمد و له الشكر.

ثم إنك قد علمت أن الشرف و السعادة بالحقيقة إنما يحصل للنفس من جهة جزئها النظري الذي هو أصل ذاتها و أما ما يحصل لها بحسب جزئها العملي الذي هو من جهة تعلقها بالبدن و إضافتها و نفسيتها فليس لها بحسبه من الاغتباط إلا السلامة عن المحنة و البلاء و الطهارة عن الشين و الرجس و الصفا عن الكدورة و الرذيلة- و الخلاص عن العقوبة و الجحيم و العذاب الأليم و ذلك بمجرده لا يوجب الشرف الحقيقي و الابتهاج العقلي إلا أن لأهل السلامة كالزهاد و الصلحاء ضربا آخر من السعادة التي تناسبها كما سنعود إلى شرحه.

فصل (3) في الشقاوة التي بإزاء السعادة الحقيقية اعلم أن هذه الشقاوة لا تكون للنفوس الحيوانية و لا للنفوس الساذجة و لا للنفوس العامية التي لم تحصل فيها بعد ملكة التشوق إلى كسب العلوم العقلية و الكلامية- و لا محبة الترفع و الرئاسة كأكثر أرباب الحرف الدنيوية و العوام و النساء و الصبيان- فإن لهم إذا شقوا نوع آخر من الشقاوة كما أن لهم إذا سعدوا نوع آخر من السعادة- إذ الأشقياء فريقان. فريق حق عليهم «1» الضلالة و حق عليهم القول في الأزل لأنهم أهل الظلمة و أهل الدنيا و الحجاب الكلي المختوم على قلوبهم فطرة كما قال تعالى لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ* و قوله وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها الآية. و الفريق الآخر هم المنافقون الذين كانوا مستعدين في الأصل قابلين لنور المعرفة بحسب الفطرة و النشأة الأولى و لكن ضلوا عن «2» الطريق و احتجبت قلوبهم بالرين- المستفاد من اكتساب الرذائل بارتكاب المعاصي و مباشرة الأعمال البهيمية و السبعية- و مزاولة المكايد الشيطانية حتى رسخت الهيئات الغاسقة و الملكات المظلمة و ارتكمت على أفئدتهم و انتقشت نفوسهم برسوم سفسطية و صور جهلية و خيالات باطلة و أوهام كاذبة فبقوا شاكين حيارى تائهين منكوسين انتكست وجوههم إلى أقفيتهم و حبطت أعمالهم و بقيت نفوسهم في غصة و عذاب أليم مغلولة مقيدة بسلاسل علائق الهيولى في ظلمات شهوات الدنيا و قد سلبت عنها قوى إدراك هذه الشهوات و آلاتها تلذعها عقارب الهيئات السوأى و حياتها خالدين فيها ما دامت السماوات و الأرض و كانت قد ناداها منادى الحق فتغافلت و غوت و أعرضت و جحدت فحل عليها غضب الحق و قيل فيها مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى‏ قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي‏ ْمى‏ وَ قَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَ كَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى‏  «1» و من أعظم الآلام لهم أنهم عن ربهم لمحجوبون و قد ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون- و أحاطت به خطيئاتهم فهم في الدرك الأسفل من النار متقاعدون فلا شك أن هؤلاء الأشقياء أسوأ حالا من الفريق الأول فالأولى «2» أهل الحجاب و الأخرى أهل العقاب- و في الكتاب الإلهي قد تكررت و تكثرت الإشارة إليهما جميعا و إلى كل منهما منفردا.

منها ما وقع في أوائل البقرة فالإشارة إلى القسم الأول قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ إلى قوله وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فهؤلاء لا سبيل إلى خلاصهم من النار- و هم أصحاب «3» النار بالحقيقة كأكثر الكفرة طبعا و قد تأكدت القوة بمزاولة المعاصي و الشهوات كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا إنهم لا يؤمنون و كذلك «4» حقت كلمة ربك على الذين كفروا إنهم أصحاب النار لأنهم سدت عليهم الطريق- و أغلقت عليهم الأبواب إذ القلب أعني القوة العاقلة هو مشعر الإلهي الذي هو محل الإعلام و الإلهام فحجبوا عنه بختمه و الحواس سيما السمر و البصر و هما المشعران- اللذان هما بابان عظيمان من أبواب الفهم و الاعتبار فحرموا عن جدواهما لامتناع نفوذ المعنى فيهما إلى القلب فلا سبيل لهم في الباطن إلى العلوم الحقيقية و لا في الظاهر إلى العلوم الرسمية «1» كما قال تعالى وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ- لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها الآية فحبسوا في سجون الظلمات فما أعظم عذابهم- و الإشارة إلى القسم الثاني قوله تعالى وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ إلى قوله وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ و هؤلاء مرضى القلوب متألمو النفوس بالحقد و الحسد و الكبر و النفاق و العداوة و البغضاء و الرعونة و الرياء و هم أهل الكيد و النفاق و الغدر و الخداع و الشقاق و المكر و الحيلة و قد يكون لهم مع ذلك آراء باطلة- و اعتقادات فاسدة و نعوذ بالله إذا حفظوا مع شرارة النفس أقوالا شرعية و علوما ناموسية- جعلوها من أسباب الترفع و الرئاسة بادعائهم الإيمان بالله و باليوم الآخر و لم يدخل في قلوبهم الإيمان أصلا فهذه الأمراض النفسانية سواء كانت من باب الآراء و العقائد- أم لا كلها مؤلمة للنفوس معذبة للقلوب و لكن الاعتقادات الردية و العلوم الفاسدة- أشد تعذيبا و أكثر إيلاما للنفوس فإنها نيرانات ملتهبة في نفوس معتقديها و حرقات مشتعلة في قلوبهم فإيلامها أشد من إيلام هذه النار الدنيوية كما ذكر الله تعالى بقوله- نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ لأنها مع كونها في نفسها قبيحة مؤلمة منها ينشأ سائر المعاصي و السيئات الموجبة لتعذب النفوس إلى وقت معلوم فهاتان الشقاوتان «2» كلاهما شقاوة عقلية و سيأتي «3» شرح السعادة و الشقاوة الحسيتين فيما بعد إن شاء الله تعالى.

و الحاصل أن الشقاوة الأخروية إما بحسب ما يحصل لها من الهيئات البدنية- من المعاصي الحسية الشهوية و الغضبية و إما بحسب ما يحصل لها من الهيئات النفسانية كالحسد و الرياء و الجحود للحق و الإنكار للعلوم الحقة الحقيقية فسب.

الشقاوة التي تحصل من الجهة الأولى أن هذه الهيئات الانقيادية و الانفعالات الانقهارية للنفس إذا تأكدت يمنعها عن الوصول إلى سعادتها الأخروية و تصدها عن «1» درك النعيم الأخروي و هي مع ذلك تحدث نوعا من الأذى عظيما لفقد المألوفات العادية- و وجود الملكة الشوقية إليها و عدم ما يشغل النفس عن تذكرها فإن هذه الهيئات و إن كانت قبيحة في نفسها مؤلمة لجوهر النفس مضارة لحقيقتها لكن كان إقبال النفس على البدن يشغلها عن الإحساس بفضائحها و قبائحها و مضادتها لجوهر النفس ففي الآخرة إذا زال ذلك الإقبال و الاشتغال فيجب أن تحس بإيلامها و إيذائها كما قال تعالى فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ فتأذى النفس عند رفع الحجاب و الموت أذى عظيما و عذابا شديدا كمن به آفة مؤلمة و مرض أليم و له شغل شاغل كخدر أو إغماء أو غير ذلك فإذا فزع عن ذلك أحس به فتأذى منه غاية الأذى و لكن لما كانت هذه الهيئات الانقيادية غريبة عن جوهر النفس كما أشرنا إليه فكذا ما يلزمها و يتفرع عنها من الأشباح الجهنمية فلا يبعد أن يزول عنها في مدة من الدهر متفاوتة على حسب كثرة العوائق و قلتها إن شاء الله تعالى و يشبه أن تكون الشريعة الحقة قد أشارت إليه حيث ورد أن المؤمن الفاسق لا يخلد في النارو أما القسم الثاني من الشقاوة العقلية فهو الداء العضال «2» و المرض المؤلم للشاعر بالعلوم و الكمال العقلي في الدنيا و الكاسب شوقا لنفسه إليها ثم تارك الجهد فيه لتكتسب العقل بالفعل اكتسابا ما ففقدت منه القوة الهيولانية و حصلت ملكة الاعوجاج- و الصور الباطلة المخالفة للواقع و القول على العصبية و الجحد فهذه الداء العياء مما أعيت أطباء الأرواح عن علاجها إذ المحال غير مقدور عليه و هذا الألم الكائن عنها- بإزاء اللذة الكائنة عن مقابلها و كما أن تلك أجل من كل إحساس بملائم كذلك هذه أشد من كل إحساس بمناف من تفريق اتصال بالنار أو تجميد بدن بالزمهرير أو ضرب عنق و قطع عضو و عدم تصور ذلك لأهله في الدنيا سببه ما ذكرناه من المعنى الذي قررناه في عدم وجدان اللذة المقابلة له و كما أن الصبيان لا يحسون باللذات و الآلام- التي يخص المدركين و يستهزءون بهم و إنما يستلذون ما هو غير لذيذ و يكرهه المدركون كذلك صبيان العقول و هم أهل الدنيا لا يشعرون بما أدركه ذو العقول البالغة الذين يخلصون عن المادة و علائقها.

فصل (4) في سبب خلو بعض النفوس عن المعقولات و حرمانهم عن السعادة الأخروية اعلم أن القوة التي هي محل العلوم و المعارف في الإنسان هي اللطيفة المدبرة لجميع الجوارح و الأعضاء المستخدمة لجميع المشاعر و القوى و هي بحسب ذاتها قابلة للمعارف و العلوم كلها إذ نسبتها إلى الصور العلمية نسبة المرآة إلى صور الملونات و المبصرات و إنما المانع من انكشاف الصور العلمية لها أحد أمور خمسة كما ذكره- بعض أفاضل العلماء في مثال المرآة.

أولها نقصان جوهرها و ذاتها قبل أن يتقوى كنفس الصبي فإنها لا يتجلى لها المعلومات لنقصانها و كونها بالقوة و هذا بإزاء نقصان جوهر المرآة و ذاتها كجوهر الحديد قبل أن يذوب و يشكل و يصيقل.

و الثاني خبث جوهرها و ظلمة ذاتها ككدورة الشهوات و التراكم الذي حصل على وجه النفس من كثرة المعاصي فإنه يمنع صفاء القلب و طهارة النفس و جلاءها فمنع ظهور الحق فيها بقدر ظلمتها و تراكمها كصداء المرآة و خبثها و كدورتها المانعة من ظهور الصورة فيها و إن كانت قوية الجوهر تامة الشكل و اعلم أن كل حركة أو فعل وقعت من النفس حدث في ذاتها أثر منها فإن كانت شهوية أو غضبية صارت بحسبها عائقة الكمال الممكن في حقها و إن كانت عقلية صارت بحسبها نافعة في كمالها اللائق فكل اشتغال بأمر حيواني دنيوي كنكتة سوداء في وجه المرآة فإذا تكثرت و تراكمت أفسدتها و غيرتها عما خلقت لأجله كتراكم الغبارات و البخارات و الأصدية في المرآة- الموجبة لفساد جوهرها.

و الثالث أن تكون معدولا بها عن جهة الصورة المقصودة و الغاية المطلوبة فإن نفوس الصلحاء و المطيعين و إن كانت صافية نقية عن كدورة المعاصي نقية عن ظلمات المكر و الخديعة و غيرهما لكنها ليست مما يتضح فيه جلية الحق لأنها «1» ليست تطلب الحق و لم تحاذ شطر المطلوب و عدلت عن الطريق المؤدي إلى جانب الملكوت و هو صرف الفكر في المعارف الحقيقية و التأمل في آيات الربوبية و إدراك الحضرة الإلهية- بصرف الهم إلى أعمال بدنية و نسك شرعية و أوراد و أذكار وضعية من غير تدبر و تأمل فيها «2» و في الغرض من وضعها فلا ينكشف لهم إلا ما توجهت إليه هممهم من تصحيح صورة الأعمال و الطاعات و دفع مفسدات النسك من القيام و الصلوات و غيرهما إن كانوا متفكرين فيها و إذا كان تقيدهم بترجيح الطاعات و تفضيل حسنات الأعمال- مانعا عن انكشاف جلية الحق فما ظنك في صرف الهمة إلى شهوات الدنيا و علائقها- فكيف لا يمنع من الكشف الحقيقي و هذا في مثال المرآة هو كونها معدولا بها من جهة الصورة إلى غيرها.

الرابع الحجاب المرسل فإن المطيع القاهر للشهوة المتحرى للفكر القاصد لتحصيل العلم قد لا ينكشف له حقيقة مطلوبة الذي قصده لكونه محجوبا عنه «1» باعتقاد مقبول للناس سبق إليه منذ الصبا على وجه التقليد و حسن الظن يحول بينه و بين حقيقة الحق- و يمنع أن ينكشف في قلبه خلاف ما تلقفه بالتقليد و هذا أيضا حجاب عظيم حجب به أكثر المتكلمين و المتعصبين للمذاهب بل أكثر المنسوبين إلى العلم و الصلاح فإنهم محجوبون باعتقادات تقليدية رسخت في نفوسهم و تأكدت في قلوبهم و صارت حجابا بينهم و بين درك الحقائق و هذا في مثالنا حجاب المرسل بين المرآة و الصورة.

الخامس الجهل بالجهة التي منها يقع الشعور بالمطلوب و العثور على الحق المقصود فإن طالب العلم ليس يمكنه تحصيل العلم بالمطلوب من أي طريق كان بل بالتذكر المعلوم و المقدمات التي تناسب مطلوبه حتى إذا تذكرها و رتبها في نفسه ترتيبا مخصوصا مقررا بين العلماء النظار ذوي الاعتبار فعند ذلك يكون قد عثر على جهة- فيتجلى له حقيقة المطلوب فإن العلوم المطلوبة التي بها تحصل السعادة الأخروية- ليست فطرية فلا تقتنص إلا بشبكة العلوم الحاصلة أولا بل كل علم غير أولي لا يحصل إلا بعلمين سابقين يأتلفان و يزدوجان على وجه مخصوص فيحصل من ازدواجهما علم ثالث- على مثال ما يحصل النتاج من ازدواج الفحل و الأنثى فإن لكل ممكن معلول علة مخصوصة لا يمكن حصول شي‏ء من ذوات العلل و الأسباب إلا من طريق سببه و علته فكذلك العلم بها لا يحصل إلا من جهة العلم بأسبابها و عللها فالجهل «2» بأصول المعارف و بكيفية ترتيبها و ازدواجها هو المانع من العلم بها و مثاله في المرآة هو عدم المحاذاة لها بالجهة التي فيها الصورة المرئية فرب صورة لم تكن محاذية للجهة التي فيها المرآة- بل مثاله أن يريد الإنسان مثلا أن يرى قفاه في المرآة فيحتاج إلى مرآتين ينصب أحدهما وراء القفا و الأخرى في مقابلتها بحيث يبصرها و يراعي مناسبة مخصوصة بين وضع المرآتين حتى ينطبع صورة القفا في المرآة المحاذية للقفا ثم تنطبع صورة هذه المرآة في المرآة الأخرى حتى تدرك العين صورة القفا كذلك في اقتناص العلوم طرق عجيبة فيها انتقالات أعجب مما ذكر في المرآة و يعز على بسيط الأرض من يهتدي إلى كيفية الاهتداء بها فهذه هي الأسباب المانعة للنفس الناطقة من معرفة حقائق الأمور- و إلا فكل نفس بحسب الفطرة السابقة صالحة لأن تعرف حقائق الأشياء لأنها أمر رباني شريف فارق سائر جواهر هذا العالم بهذه الخاصية و ما ورد عنه ص: لو لا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماء إشارة إلى هذه القابلية و هذه الحجب الحائلة بين النفوس الإنسانية و عالم الملكوت فإذا ارتفع هذه الحجب و الموانع عن قلب الإنسان الذي هو نفسه الناطقة تجلى فيه صورة الملك و الملكوت- و هيئة الوجود على ما هي عليه فيرى ذاته في جنة عرضها السماوات و الأرض بل يرى في ذاته جنة عرضها أوسع من عرض السماوات و الأرض لأنهما عبارة عن عالم الملك و الشهادة و هو محدود و أما عالم الملكوت و الحقائق العقلية و هو الأسرار الغائبة من مشاهدة الحواس المخصوصة بإدراك البصيرة فلا نهاية لها و جملة عالم الملك و الملكوت إذا أخذت دفعة تسمى الحضرة الربوبية لأن الله محيط بكل الموجودات إذ ليس في الوجود سوى ذات الله و أفعاله و مملكته من أفعاله فما يتجلى من ذلك للقلب هو الجنة «1» بعينها عند قوم و هو سبب استحقاق الجنة عند آخرين و يكون سعة المملكة في الجنة بقدر سعة المعرفة و بمقدار ما يتجلى للإنسان من الله و صفاته و أفعاله و إنما المراد من الطاعات و أعمال الجوارح كلها تصفية القلب و تطهير النفس و جلاؤها بإصلاح الجزء العملي منها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها و نفس الطهارة و الصفاء ليست كمالا بالحقيقة لأنها أمر عدمي و الأعدام ليست من الكمالات بل المراد منها حصول أنوار الإيمان أعني إشراق نور المعرفة بالله و أفعاله و كتبه و رسله و اليوم الآخر و هو المراد بقوله تعالى فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ ... فَهُوَ عَلى‏ نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فشرح الصدر غاية الحكمة العملية و النور غاية الحكمة النظرية فالحكيم الإلهي هو الجامع لهما و هو المؤمن الحقيقي بلسان الشريعة و ذلك الفوز العظيم.

فصل (5) في كيفية حصول العقل الفعال في أنفسنا اعلم أن للعقل الفعال وجودا في نفسه و وجودا في أنفسنا فإن كمال النفس و تمام وجودها و صورتها و غايتها هو وجود العقل الفعال لها و اتصالها به و اتحادها معه- فإن ما لا وصول «1» لشي‏ء إليه بوجه الاتحاد لا يكون غاية لوجود ذلك الشي‏ء فما هو غاية بالطبع لشي‏ء في وقت فهو من شأنه أن يصير صورة له في وقت آخر إلا لمانع يقطع طريقه إلى الوصول و كأنا قد أوضحنا تحقيق هذا الاتحاد في العلم الكلي عند بحثنا عن أحوال العقل و المعقول إيضاحا يكفي لأهل العرفان و أصحاب الذوق و الوجدان- و إن لم يكن نافعا لأهل الجحود و الطغيان فمن استشكل عليه أن شيئا واحدا كيف يكون فاعلا متقدما على وجود الشي‏ء و غاية متأخرة عنه مترتبة عليه ترتبا ذاتيا بعد مراتب استكمالاته و ترقياته في الوجود فعليه أن يرجع و ينظر إلى ما حققناه و يسلك الطريق الذي سلكناه حيث عرفناه بقوة البرهان و نور الكشف و العيان أن المبدأ الأعلى له الأولية و الآخرية لأجل سعة وجوده المنبسط و قوة وحدته الجامعة- و شدة نوريته الساطعة و تمام هويته التي انبعث منها الهويات و عينه التي انبجست منها أعيان الوجودات فوجوده التام الذي هو فاعل الآنيات هو غايتها و كمالها فهو أصل شجرة الوجود و ثمرتها لأن وحدته ليست كسائر الوحدات التي تحصل بتكررها الأعداد فلا ثاني لوحدته كما لا مثل لوجوده بل أحديته الصرفة جامعة للكثرات سارية في الوحدات و نور وجوده نافذ في الهويات كما قال أمير الموحدين علي ع: مع كل شي‏ء لا بمقارنة و غير كل شي‏ء لا بمزايلة فلا يدفع وجوده الابتدائي وجوده الانتهائي فمنه يتنزل الموجودات في الابتداء و إليه تصعد الآنيات في الانتهاء فعلى هذا المنوال حال وجودات الأنوار القيومية و صور المفارقة الإلهية فإن «1» وجودات العقول الفعالة ظلال لوجوده و وحداتها مثل لوحدته فسعتها و جمعيتها أنموذج لسعته و جمعيته فإنما هي وسائط صدور الأشياء عن الحق تعالى و وسائل رجوع الموجودات إليه فلها الأولية بأوليته و الآخرية بآخريته كما أنها موجودة بوجوده لا بإيجاده- باقية ببقائه لا بإبقائه لأنها كما علمت بمنزلة أشعة نوره و لوازم هويته.

ثم إن النظر في العقل الفعال من حيث وجوده في نفسه غير النظر فيه من حيث حصوله لنفوسنا فالنظر فيه من الحيثية الأولى قد مر ذكره في الربوبيات إذ قد ثبت وجوده في نفسه بالبرهان و ليس النظر فيه الآن إلا من حيث كونه كمالا للنفس الإنسانية و تماما لها و البرهان على وجوده في النفس أن النفس في مبادي الأمر- و إن كانت نفسا بالفعل لكنها عقل بالقوة و لها أن تصير عقلا بالفعل لأجل تصور المعقولات و التفطن بالثواني بعد الأوليات حتى يصير بحيث تحضر صور المعلومات متى شاءت فتحصل لها ملكة استحضار الصور العقلية من غير تجشم كسب جديد فخرجت ذاتها من العقل بالقوة إلى العقل بالفعل و كلما خرج من حدود القوة و الاستعداد إلى حد الفعل فلا بد له من أمر يخرجه منها إليه فهو إن كان أمرا غير عقلي كجسم أو قوة جسمانية فيلزم أن يكون الأخس وجودا علة مفيدة للأشرف وجودا و كان غير العقل أفاده العقل لغيره و ذلك محال و إن كان عقلا فلا يخلو إما أن يكون عقلا في أصل الفطرة فهو المطلوب و إن لم يكن كذلك فيحتاج لا محالة إلى أمر يخرجه من القوة إلى الفعل- و يجعله عقلا بالفعل فننقل الكلام إليه حتى يدور أو يتسلسل أو ينتهي إلى المطلوب فثبت وجود العقل المقدس عن شائبة القوة و النقص الاستعدادي.

و من سبيل آخر أن النفس الإنسانية قد لا يكون معلوماتها التي اكتسبتها حاضرة لها مدركة و لها قوة الاسترجاع و الاستذكار فهي مخزونة فلها قوة الإدراك و قوة الحفظ و هما متغايرتان لأن «1» الحافظ فاعل و المدرك قابل فيمتنع اتحادهما- و لا شك أن المدرك القابل هي النفس فالحافظ الفاعل جوهر أجل منها وجودا و هذا النحو من الوجود عقل فعال و ظاهر مكشوف أنه ليس جسما من الأجسام و لا قوة في جسم لأن شيئا منهما لا يكون معقولا بالفعل و لا عاقلا بالفعل فكيف يكون سببا لما ليس بجسم و لا في جسم و الكلام في وجود سبب تصير به النفس عقلا بالفعل و أما المعقول من الجسم فهو صورة عقلية لا يحمل عليه معنى الجسم بالحمل الشائع الصناعي- فبالجسم لم يصر جسم معقولا فضلا عما ليس بجسم من الأمور التي ليست داخلة في مكان- و لا منطبعة في ذي وضع و حيز حتى يجاورها أو يحاذيها جسم أو صورة في جسم فيؤثر فيها لما تقدم أن تأثير الأجسام و الجسمانيات في الأشياء بمشاركة الأوضاع المكانية- فإن القرب الوضعي و الاتصال المقداري في الجسمانيات بإزاء القرب المعنوي و الارتباط العقلي في الروحاني في قبول الأثر و استجلاب الفيض و أما الأول تعالى فهو و إن كان هو الفياض المطلق و الجواد الحق على كل قابل لفيض الوجود إلا أن في كل نوع من أنواع الكائنات لا بد من واسطة تناسبه من الصور المجردة و الجواهر العقلية و هم الملائكة المقربون المسمون عند الأوائل بأرباب الأنواع و عند الأفلاطونيين بالمثل الأفلاطونية و الصور الإلهية لأنها علومه التفصيلية التي بواسطتها يصدر الأشياء الخارجة كما مر و لا شك أن أليقها و أنسبها في أن يعتني تكميل النفوس الإنسانية- هو أبوها القدسي و مثالها العقلي المسمى بلسان الشرع جبرئيل روح القدس و في ملة الفرس كان يسمى روانبخش و في كثير من الآيات القرآنية تصريح بأن هذه المعارف في الناس و في الأنبياء ع يحصل بتعليم الملك و إلهامه كقوله تعالى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى‏ و قوله قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ «1» و كيفية وساطة هذا الملك المقرب العقلاني- في استكمالاتنا العلمية أن المتخيلات المحسوسة إذا حصل في قوة خيالنا يحصل منها من جهة المشاركات و المباينات المعاني الكلية و لكنها في أوائل الأمر مبهمة الوجود- ضعيفة الكون كالصور المرئية الواقعة في موضع مظلم فإذا كمل استعداد النفس و تأكد صلاحيتها بواسطة التصفية و الطهارة عن الكدورات و تكرر الإدراكات و الحركات الفكرية- أشرق نور العقل الفعال عليها و على مدركاتها الوهمية و صورها الخيالية فيجعل النفس عقلا بالفعل و بجعل مدركاتها و متخيلاتها معقولات بالفعل و فعل العقل الفعال في النفس و صورها المتخيلة الواقعة عندها كفعل الشمس في العين الصحيحة و ما عندها من الصور الجسمانية الواقعة بحذائها عند إشراقها على العين و على مبصراتها فالشمس مثال العقل الفعال و قوة الإبصار في العين مثال قوة البصيرة في النفس و الصور الخارجية التي بحيالها مثال الصور المتخيلة الواقعة عند النفس فكما أن قبل إشراق الشمس عند الظلام يكون البصر بصرا بالقوة و المبصرات مبصرات بالقوة فإذا طلعت الشمس و أشرق عليها صارت القوة البصرية رائية مبصرة بالفعل و تلك الملونات التي بحيالها مرئيات مبصرة بالفعل فكذلك مهما طلع على النفس هذا النور القدسي و أشرق ضوؤه عليها و على مدركاته الخيالية صارت القوة النفسانية عقلا و عاقلا بالفعل و صارت المتخيلات معقولات بالفعل و ميزت القوة العقلية بين المكتسبات الحاصلة ذاتياتها عن عرضياتها و حقائقها عن لواحقها و رقائقها و أصولها عن فروعها و أخذتها مجردة عن الأعداد و الأفراد فيصير الإنسان عند ذلك إنسانا عقليا إذ بطلت جزئيته و ضيق وجوده بقطع التعلقات و القيود و إذا اشتد هذا النور الذي هو صورته العقلية اتحد بالروح الكلي الإنساني المسمى بروح القدس و العقل الفعال و المبدأ الفاعلي الذي سعته وجوده و بسط هويته بحيث يكون نسبته إلى جميع الأشخاص و الأعداد و الأنداد البشرية نسبة واحدة كما هو شأن الكلي الصادق عليها المحمول عليها بحسب المفهوم و المعنى إلا أن المفهوم «1» عنوان للأفراد و هذا المبدأ الفاعلي حقيقة لها و حامل لها حافظ إياها- و كذا الطبائع الكلية عنوانات لذوات نورية و هويات عقلية و ملائكة قدسية و أرباب أنواع طبيعية و بالجملة مهما صارت النفس عقلا تصير محسوساتها معقولات بالفعل «2» و عاقلات أيضا لما مر من طريقتنا أن كل معقول بالفعل عاقل بالفعل.

فصل (6) في إظهار نبذ من أحوال هذا الملك الروحاني المسمى عند العرفاء بالعنقاء على سبيل الرمز و الإشارة العنقاء «3» محقق الوجود عند العارفين لا يشكون في وجوده كما لا يشكون في البيضاء و هو طائر قدسي مكانه «1» جبل قاف صفيره يوقظ الراقدين في مراقد الظلمات- و صوته ينبه الغافلين عن تذكر الآيات نداؤه ينتهي إلى سماع الهابطين في مهوى الجهالات المترددين كالحيارى في تيه الظلمات النازلين في عالم الهيولى و الهاوية الظلماء- و القرية الظالم أهلها و لكن قل من يستمع إليه و يصغي نداءه و يعرف صداه «2» لأن أكثرهم عن السمع لمعزلون و عن آيات ربهم معرضون صم بكم عمي فهم لا يعقلون هو مع جميع الخلق و هم لا معه و نعم ما قيل بالفارسية.

با مائى و با ما نه‏اى             جائى از آن تنها نه‏اى‏

 و كل من له علة الاستسقاء أو فيه مرض السوداء يستسقي «3» بظلاله و كذا من به من علة ماليخوليا ينتفع بسماع صفيره بل الأمراض المختلفة و العلل الممرضة كلها يزول بخواص «4» أجنحته و رياشه إلا مرض واحد مهلك و هو الجهل الراسخ المركب بالعناد- و له الطيران «5» صعودا و نزولا من غير حركة و انتقال و له الذهاب و المجي‏ء من غير تجدد حال و ارتحال و إليه القرب و البعد من دون مسافة و مكان و لا تغير و زمان- منه ظهرت الألوان في ذوات الألوان و هو مما لا لون له و كذا الأمر في باب الطعوم و الروائح و من فهم «6» لسانه يفهم جميع ألسنة الطيور و يعرف كل الحقائق و الأسرار مستوكره المشرق و لا يخلو عنه ذرة في المغرب الكل به مشتغل و هو من الكل فارغ و الأمكنة مملوءة منه و هو خال عن المكان العلوم و الصنائع مستخرجة من صفيره و النغمات اللذيذة و الأغاني العجيبة و الأرغنونات و الموسيقارات المطربة و غيرها مستنبطة من أصول هذا الطير الشريف الذات المبارك الاسم.

چون نديدى شبى سليمان را             تو چو دانى زبان مرغان را

 كل من يتعوذ بريشه من رياشه يجوز «1» في النار آمنا من الحرق و يعبر على الماء مصونا من الغرق بل استكمال جميع الخلق بأنحاء كمالاتهم و وصول السالكين إلى مآربهم و حاجاتهم بتأييد هذا الطير القدسي.

باتشکرازجناب حسین مخیران درتهیه این مطلب

نوشتن دیدگاه


تصویر امنیتی
تصویر امنیتی جدید